الوسطية والاعتدال في فكر سيد قطب – القسم الأول –
د. دحـام إبراهيم الهسنياني
موضوع الوسطية من أهم المواضيع التي يجب أن يعتني بها المسلمون؛ لأنه موضوع جليل القدر، عظيم الشأن، عميم الفائدة، واسع المجال، ولأننا في حاجة ماسة إلى الالتزام بالمنهج الوسط الذي ارتضاه الله تعالى لنا في ديننا، والذي كان عليه رسولنا الكريم ﷺ، وصحابته، والتابعون. وما نعانيه اليوم من ضياع وتشتت وتناحر ما هو إلا بسبب الابتعاد عن المنهج الوسط، والضياع بين جانبي الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، وهذا السبب هو الذي يشل وحدة المسلمين، ويمزقهم كل ممزق، ويجعلهم في مؤخرة الركب، ويدك معاقل القوة لديهم.
ولذلك، فإن البحث في هذه المسألة المهمة اليوم حاجة ماسّة وضرورية أكثر من أي وقت مضـى، لأنه لا سبيل إلى بقاء الأمة الإسلامية إلا بوحدتها، ولا سبيل إلى وحدتها إلا بالتزامها المنهج الوسط القويم.
ومن أجَلّ مَنْ كَتَبَ عن الوسطية والتوازن والاعتدال الأستاذ المفسّر القدير الشهيد سيد قطب – رحمه الله تعالى -، الذي يعدّ من المفكّرين البارزين المجدّدين الذين يمتازون بالوسطية والاعتدال، ويجمعون بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر، كما بيّنها في مؤلفاته البناءة الهادفة والمفيدة، وهذا ما أبيّنه في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
مفهوم الوسطية:
المعنى اللغوي:
(وسط): يدل على العدل والنصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه، وسطت القوم أسطهم وسطًا وسطة، أي: توسطتهم. وفلان وسيط في قومه، إذا كان أوسطهم نسبًا، والتوسيط: أن تجعل الشيء في الوسط، والتوسيط: قطع الشيء نصفين، والتوسّط بين الناس من الوساطة، وشيءٌ وسط، أي: بين الجيد والرديء، وعبدٌ وسط، وأمةٌ وسط، وشيء أوسط، وللمؤنث وسطى بمعناه. وواسطة القلادة: الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها. ووسوط الشمس توسطها السماء، وجلست وسط القوم بالسكون وسطًا، فهو واسط، والمفعول موسوط. ويجمع الأوسط على الأواسط، مثل الأفضل والأفاضل، ويجمع الوسطى على الوسط؛ مثل: الفضلى والفضل([1]).
المعنى الاصطلاحي:
الوسطية تعني: الاعتدال والتوازن، ويعنى بها: التعادل بين طرفين متقابلين، أو متضادين، بدون إفراط أو تفريط، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقّه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه. وهذه الوسطية هي العدل والطريق الأوسط الذي تجتمع عنده الفضيلة([2]).
معنى الوسطية في مفهوم سيد قطب:
قال سيد قطب: “و(أوسط) تحتمل من (أحسن)، أو من (متوسّط)، فكلاهما من معاني اللفظ، وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد، لأنَّ المتوسط هو الأحسن، فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام”([3]).
الوسطية في الاستعمال القرآني:
وردت مادة (وسط) في القرآن الكريم (5) مرات، وجاء الوسط الميثاق في القرآن بمعناه اللغوي: المعتدل من كل شيء، ويلزم منه التوسط في منتصفٍ أو بين طرفين، ويلزم أيضًا على هذا المعنى أن يكون الوسط هو الأعدل والأفضل والأخير([4]).
مفهوم الأمة الوسط:
تميّزت الأمّة الإسلامية بخاصية منفردة لم تكن لأمّة من الأمم السابقة، وهي ميزة الوسطية التي جعلها الله خصيصة لأمة محمد ﷺ في القرآن الكريم في قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا](البقرة:143).
هذه الآية توجيه للخطاب إلى المؤمنين، بين الخطابين المختصين بالرسول ﷺ، لتأييد ما في مضمون الكلام من التشريف([5]). ويأخذ قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا] مقاماً متميّزاً مهماً بين ساحات ومجالات الجعل الإلهي، ففي كون الله – جلّ جلاله – هو الذي (جعل)، وهو ربّ العالمين، بيده مقاليد كل شيء، دعم وتأييد لمن (جعل) لينهض بالأمر، وتوليد للثقة بالمقدرة والنصر. فهذا الجعل إناطة للتبعة، وتعويل وتخويل، وإعداد للمهمة، وحفز للهمّة.. فإذا دمجناه بما فهمناه من مراد الآية (بالأمّة)، تبدّى لنا حجم هذه (الوسطية) في الحقيقة، والتكليف، والتشريف، ووزنها الذي استحقّت معه الشهادة على الناس، كل الناس.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فأمّة الوسط هي المقياس الشرعي الدقيق، والصفة القرآنية الجليلة، والمصطلح القرآني المهم، الذي لم يعدْ في هذا الزمان يحظى بتلك الأهمية في حياة الناس، إذ اختلط أمره على الكثيرين، بل وأفسد معناه الكثيرون، فأخرج البعض مضامينه الحقيقية منه، وأدخلوا إليه مضامين جديدة لا تخضع للشرع، وإنما تخضع لحكم العقل ومقاييس الهوى.
وعن أمّة الوسط يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله -: “إنها أمّة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها، فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوّراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم، فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها، وهذا باطل، لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم.. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة.. وبهذا تحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعر بضخامتها. ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعداداً لائقاً.. وإنها للأمة الوسط، بكل معاني الوسط؛ سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..
[أمة وسطاً].. في التصوّر والاعتقاد.. لا تغلو في التجرّد الروحي، ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة المماثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح.
[أمّة وسطاً].. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت، وتغلق منافذ التجربة والمعرفة… ولا تتبع كذلك كل ناعق… إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج، للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن، أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.
[أمّة وسطاً].. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذا وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان.. ولكن مزاج من هذا وذاك.
[أمّة وسطاً].. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً، لا همّ له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدّي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
[أمّة وسطاً].. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها؛ وتصدّها عن الفتنة بالعقل والهوى؛ وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء؛ وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلّت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.
وأمّة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة، وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الرشيدة”([6]).
أثر الأمّة الوسط بين الأمم:
قال الله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا](البقرة:143).
يقول الأستاذ سيد قطب في تفسيره لآية الوسطية: “وإنها للأمَّة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الماديّ والحسيّ؛ أمَّةً وسطًا في التصوّر والاعتقاد، أمَّةً وسطًا في التّفكير والشّعور، أمَّةً وسطًا في التَّنظيم والتَّنسيق، أمة وسطًا في الارتباطات والعلاقات، أمَّةً وسطًا في الزَّمان، أمَّةً وسطًا في المكان”([7]).
وبما أن الوسط يعني: العدل كما تقرر سابقًا، فقد جاءت الكثير من الآيات القرآنية التي تبيّن وجوب العدل في جميع الأمور، فأمر الله – عزّ وجلّ – بالعدل في الشهادة والحكم، هو إقرار لمنهج الوسطية.
قال الله تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا](النساء:135).
ففي هذه الآية دلالة بيّنة على منهج العدل والوسط، والتحذير من الجور واتّباع الهوى، حيث أمرنا الله – عزّ وجلّ – بالعدل في الشهادة، ولو كانت الشهادة بحقّ أنفسنا أو والدينا أو أقاربنا، لا نفرّق بين غني، فننحاز لغناه، ولا فقير فنجور عليه، وعلينا التزام العدل في أحكامنا على الدوام، فهذه مصلحة أرادها الله سبحانه وتعالى.
يقول سيد قطب رحمه الله: “إنه نداء للذين آمنوا، نداء لهم بصفتهم الجديدة، وهي صفتهم الفريدة، صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى؛ وولدوا ميلاداً آخر، ولدت أرواحهم، وولدت تصوراتهم، وولدت مبادئهم وأهدافهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكّلت إليهم.. أمانة القوامة على البشرية، والحكم بين الناس بالعدل..
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل، إنها أمانة القيام بالقسط.. بالقسط على إطلاقه.. في كل حال وفي كل مجال.. القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه؛ من المسلمين وغير المسلمين.. ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين، كما رأينا في قصة اليهودي، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأصدقاء والأعداء، ويتساوى الأغنياء والفقراء..
[كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ].. حسبةً لله، وتعاملاً مباشراً معه، لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم، ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، ولا تعاملاً مع الملابسات المحيطة بأيّ عنصر من عناصر القضية، ولكن شهادة لله، وتعاملاً مع الله، وتجرّداً من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار. [وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ].. وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولاً، وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً.. وهي محاولة شاقة.. أشقّ كثيراً من نطقها باللسان، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل.. إن مزاولتها عملياً شيء آخر غير إدراكها عقلياً، ولا يعرف هذا الذي نقوله، إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعياً.ولكن المنهج يجنّد النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة، لأنها لا بد أن توجد… ولا بد أن يقيمها ناس من البشر.
ثم هو يجنّد النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيراً، تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونةً لضعفه، أو من يكون فقره مدعاةً للشهادة ضده، بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية، كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية. وحين يكون المشهود له أو عليه غنياً؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته، أو قد يثير غناه وتبطّره النفس ضده، فتحاول أن تشهد ضده! وهي مشاعر فطرية، أو مقتضيات اجتماعية، لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع.. والمنهج يجنّد النفس تجاهها كذلك، كما جنّدها تجاه حب الذات، وحب الوالدين والأقربين.
[إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا].. وهي محاولة شاقة.. ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة.. وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين، في عالم الواقع، إلى هذه الذروة، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ، كان ينشئ معجزة حقيقية في عالم البشرية، معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم. [فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا].. والهوى صنوف شتى، ذكر منها بعضها.. حب الذات هوى، وحب الأهل والأقربين هوى، والعطف على الفقير، في موطن الشهادة والحكم، هوى.. ومجاملة الغني هوى، ومضارته هوى.. والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن، في موضع الشهادة والحكم، هوى.. وكراهة الأعداء، ولو كانوا أعداء الدين، في موطن الشهادة والحكم، هوى.. وأهواء شتى الصنوف والألوان.. كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها.وأخيراً يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة، والإعراض عن هذا التوجيه فيها: [وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا].. ويكفي أنْ يتذكّر المؤمن أنّ الله خبير بما يعمل، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير، يرتجف له كيانه.. فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين!
ولكن التذوّق الحقيقي لمعنى العدالة؛ والتحقّق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم؛ والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة.. لم يقع إلا في ذلك المنهج.. في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة.. وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام، وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة، وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد.
وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدّت؛ وبالإجراءات القضائية التي استحدثت؛ وبالأنظمة والأوضاع القضائية التي نمت وتعقدت، فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة، وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة، في تلك الفترة الفريدة! في تلك القرون البعيدة! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة!”([8]).
العدل والتوازن في خلق الله وأمره:
والناظر في مؤلّفات الأستاذ سيد قطب؛ يرى أنها تحوي العديد من صور ومظاهر التوسط والتوازن والعدل في الإسلام. ونبدأ بمظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وأمره، يقول – رحمه الله – عن منهج الله القائم على العلم المطلق والحكمة البالغة في الخلق والشرع: “إن شريعة الله تمثّل منهجاً شاملاً متكاملاً للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية، في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها.
وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان، وبطبيعة النواميس التي تحكمه، وتحكم الكينونة الإنسانية… وهو منهج قائم على العدل المطلق؛ أولاً: لأن الله يعلم حقّ العلم بم يتحقق العدل المطلق، وكيف يتحقق؟. وثانياً: لأنه – سبحانه وتعالى – ربّ الجميع، فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع، وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف، كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط؛ الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج، أو في أي شرع من صنع الإنسان ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى، فوق ما به من الجهل والقصور، سواء كان المشرع فردًا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلاً من أجيال البشر… وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله؛ لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله، صانع الكون وصانع الإنسان”([9]).
الاستقامة على المنهج الوسط:
إن رأس الأعمال الصالحة أن يكون الإنسان مستقيماً في الوسط، غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط، فتكون الاستقامة في أمر الدين والتوحيد، وفي جميع الأمور الحياتية([10]).
قال الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ](فصلت:30).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “إنهم المؤمنون الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا على الطريق إليه بالإيمان والعمل الصالح. إن الله لا يقيّض لهؤلاء قرناء سوء من الجن والإنس؛ إنما يكلّف بهم ملائكة يفيضون على قلوبهم الأمن والطمأنينة، ويبشرونهم بالجنة، ويتولونهم في الحياة الدنيا، وفي الآخرة.
والاستقامة على قولة: [رَبُّنَا اللَّهُ]، الاستقامة عليها بحقّها وحقيقتها، الاستقامة عليها شعوراً في الضمير، وسلوكاً في الحياة، الاستقامة عليها، والصبر على تكاليفها، أمر ولا شك كبير وعسير، ومن ثم يستحق عند الله هذا الإنعام الكبير؛ صحبة الملائكة، وولاءهم، ومودتهم..”([11]).
والحديث في هذه الآية عن الاستقامة، وما يترتب عليها من الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة، فهذه الاستقامة هي السحابة الممطرة التي يحيي الله بها النفوس. قال الله سبحانه: [وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا](الجن: 16)([12]).
والاستقامة هي اتّباع صراط الله المستقيم، وعدم الالتفات إلى غيره من بنيات الطريق، فهو الطريق الواضح الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين، مبتعدين عن الطرق المختلفة، والأهواء المضلّة، والبدع الرديئة([13]).
قال تعالى: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](الأنعام:153).
أخرج أحمد بسنده إلى ابن مسعود، قال: (خط لنا رسول الله ﷺ خطًا، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطًا، ثم قال: هذا سبيل الله، وهذه السبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]..”([14]).
ولعل في نسبة الصراط إلى الله، إشارة إلى عصمة هذا الصراط من الزلل؛ لأن كونه صراط الله يكفي في إفادة أنه موصلٌ للنجاح؛ فلذلك صحّ تفريع الأمر باتّباعه، على مجرد كونه صراط الله”([15]).
وفي قوله تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (هود:112).. يقول سيد قطب – رحمه الله -: “وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه! كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون!
وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة، وكيف يكشف لها معالم الطريق!
ذلك البيان، مع هذا التوكيد، يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه، وفي دينه، وفي وعده، وفي وعيده. وإذن، فليستقم المؤمنون بدين الله، والداعون له، على طريقتهم، كما أمروا، لا يغلون في الدين، ولا يزيدون فيه، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق. ثم يتزودون بزاد الطريق، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عندما يريد.
[فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ].. هذا الأمر للرسول ﷺ، ومن تاب معه: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ].. أي: الزم الطريق الوسط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا اعتساف، الزمه بالثبات عليه واتقاء الاختلاف فيه، أو التقاعس عنه، وليستقم معك كل من تاب من الشرك وآمن بالله وحده، ولا تطغوا بتجاوز حدود الله، بل التزم بالنهج الوسط الذي لا غلو فيه، ولو كان التجاوز بالغلو في الدين، لأن الإفراط فيه كالتفريط، كل منهما زيغ عن الصراط السوي الوسط المستقيم.. قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “ما نزل الله على رسول الله ﷺ آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية”، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: (شيبتني هود وأخواتها، وإن الذي شيبني منها: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أمرتَ]([16]).فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف، وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبّر الدائم، والتحرِّي الدائم لحدود الطريق، وضبط الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً.. ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة.
وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهياً عن القصور والتقصير، إنما كان نهياً عن الطغيان والمجاوزة.. وذلك أن الأمر بالاستقامة، وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرّج، قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحوّل هذا الدين من يسر إلى عسر..”([17]).
فالاستقامة تقتضي طاعة الله تعالى، والوقوف عند حدوده التي أذن فيها؛ من واجب، ومستحب، ومباح، وتجنّب الحدود التي نهى الله عنها، وفي حديث النفر الثلاث الذين استقلّوا عبادة النبي ﷺ، لخير مثال على الاستقامة الحقة في عبادته – عز وجل – دون إفراط أو تفريط، فهذا هو العمل الذي يمثّل الوسطية.
واتّباع رسول الله ﷺ هو الصراط المستقيم، الذي ندعو الله تعالى في كل ركعة من فريضة أو نافلة، أن يثبتنا عليه.
قال الله تعالى: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ](الفاتحة:6-7).
ومما سبق يتضح لنا أن سورة الفاتحة وضعت القاعدة، ورسمت المنهج الوسطي، وحددت معالمه، حيث بيّن الله لنا أن الصراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفاً الصراط المستقيم الذي فيه ضمان السعادة في الدنيا والآخرة: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ]، ومنهج المغضوب عليهم يمثّل التفريط، بينما يمثّل منهج الضالين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلو والجفاء، فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق، ثم حيدتهم عنه، أو الذين ضلوا عن الحق، فلم يهتدوا أصلاً إليه، إنّه صراط السُّعداء المهتدين الواصلين([18]).
الحكمة في القصد والاعتدال:
الحكمة: هي العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وجميع الأمور لا تصلح إلّا بالحكمة الّتي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام([19]).
وذكر سيد قطب أن الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال([20]).
وهذه الآراء كلها فيها دلالات واضحة على الوسطية، وصلتها بالحكمة. ونخلص مما سبق أن الحكمة لا بد من اعتبارها عند تحديد معنى الوسطية، حيث إننا عرفنا سابقاً أن الوسطية هي السير على الطريق المستقيم الّذي ارتضاه الله لنا، وعدم الجنوح إلى الإفراط أو التفريط، وهو عين الحكمة وجوهرها؛ وذلك أن الخروج عن الوسطية؛ سواء أكان بإفراط أو تفريط، له آثاره السلبية، وعواقبه الوخيمة، وهذا يخالف الحكمة التي علينا التحلّي بها وينافيها.
اليسر ورفع الحرج:
اليسر ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية راجع إلى الوسطية والاعتدال في الدين الإسلامي.
لقد بنى الدين الإسلامي عباداته، وغيرها، على أساس اليسر، ورفع الحرج والعسر، كما علّل به رخصة الفطر في رمضان؛ بقوله تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](البقرة:185).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسّرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوّقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلّها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة الّتي لا تكلّف فيها ولا تعقيد”([21]).
التوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية:
هنا يسلك الأستاذ سيد قطب موقفاً وسطاً بين من قصر نظره على ثبات السنن الكونية، دون اعتبار لطلاقة المشيئة الإلهية، ومن نظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية، ولم يعتبر بثبات السنن الكونية وترتُّب النتائج على الأسباب؛ موقف من نظر إلى ثبات السنة الكونية وعمل في ضوئها، وبذل الأسباب الممكنة، دون أن يتعلق بها، أو يعتقد أنها لا تتبدل أبدًا. يقول – رحمه الله -: “وبين ثبات السنن، وطلاقة المشيئة الإلهية، يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة؛ يعمل فيها وهو يعلم طبيعة الأرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة، ويتعرف إلى نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات الأرض، وينتفع بها، وبتجاربه الثابتة فيها، بمنهج علمي ثابت. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلّق القلب بمشيئته؛ لا يستكثر عليها شيئاً، ولا يستبعد عليها شيئًا…
والمسلم يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها، ويعمل وفق السُّنَّة لأنه مأمور بمراعاتها، لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج؛ فهو يردّ الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلّق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل، واتّخاذ الأسباب، طاعةً لأمر الله.
وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته؛ فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية. وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله، حيّ القلب بهذا الاتصال، موصول الضمير بالمشاعر الأدبية الأخلاقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة الإنسانية إلى أقصى الكمال المقدّر لها في الأرض، وفي حدود طاقة الإنسان”([22]).
الوسطية والتوازن بين التوكّل على الله وفعل الأسباب:
في التوكّل على الله، وفعل الأسباب، ترى الخلق – كما بيّن ابن القيم – بين من عطَّل الأسباب محافظةً على التوكل، ومن عطَّل التوكل محافظة على السبب، لكن الوسط بين هذا وذاك مَنْ علم أن حقيقة التوكل لا تتم إلّا بالقيام بالسبب، فتوكّل على الله في نفس السبب([23]). وهو ما يقرّره شهيد الإسلام سيد قطب عند تفسيره لقوله تعالى: [بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ](الروم: 5)، يقول – رحمه الله -: “فالأمر له من قبل ومن بعد، وهو ينصر من يشاء، لا مقيّد لمشيئته تعالى. والمشيئة التي تريد النتيجة، هي ذاتها التي تيسّر الأسباب، فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة، ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله، صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أراد الله تعالى أن تكون هناك سنن لا تتخلف، وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة. والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال؛ فهي تردّ الأمر كله إلى الله، ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أمّا أن تتحقق تلك النتائج فعلاً، أو لا تتحقق، فليس داخلاً في التكليف؛ لأن مردّ ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله ﷺ، ودخل يصلي قائلاً: (توكلت على الله)، فقال له رسول الله ﷺ: (أعقلها وتوكل)([24])، فالتوكل في العقيدة مقيّد بالأخذ بالأسباب، وردّ الأمر بعد ذلك إلى الله”([25]).
الوسطية في النظرة الكلية إلى الدنيا والآخرة:
الإسلام وسط في النظرة إلى الحياة بين الذين أنكروا الآخرة، واعتبروا هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، كما قال تعالى: [وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ](الأنعام: 29)، وبهذا غرقوا في الشهوات، وعبّدوا أنفسهم للماديات، ولم يعرفوا لهم هدفاً يركضون وراءه، غير المنافع الفردية الدنيوية العاجلة، وبين الذين رفضوا هذه الحياة، وألغوا اعتبارها من وجودهم، واعتبروها شراً يجب مقاومته والفرار منه، فحرّموا على أنفسهم طيّباتها، وزينتها، وفرضوا عليها العزلة عن أهلها، والانقطاع عن عمارتها، والإنتاج لها.
فالإسلام يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، ويرى العمل في عمارتها عبادة لله، وأداء لرسالة الإنسان، وينكر على غلاة المتدينين تحريم الزينة والطيبات، كما ينكر على الآخرين انهماكهم في الترف والشهوات.
وفي هذه المسألة يبيّن الأستاذ سيد قطب اعتدال المنهج الإلهي؛ في أن يستمتع الإنسان بما أباح الله له من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، استمتاعًا لا يضر دينه وآخرته، وفي الوقت ذاته ينفق لآخرته، ويبتغي بما وهبه الله من نعم في الدنيا ما عند الله تعالى. يقول – رحمه الله – عند تفسيره لقوله تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخرة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَاْ](القصص: 77)، “وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم؛ المنهج الذي يعلّق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة؛ بل يحضّه على هذا، ويكلّفه إياه تكليفاً، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.. لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها… وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكّنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقوّمات الحياة الفطرية البسيطة”([26]).
مفهوم الوسطية في العبادة:
لعل أوضح دليل في وسطية الإسلام في العبادات والشعائر: الآيات الآمرة بصلاة الجمعة: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرض وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[(الجمعة: 9-10)، فهذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة، حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة، وترك للبيع والشراء وما أشبهها من مشاغل الحياة، ثم انتشار في الأرض وابتغاء للرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيراً في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح. لذلك نرى أن أحكام الشريعة جاءت مراعية للطاقة البشرية وطبيعتها وقدراتها، فلم تكلّف الناس ما لا يطيقون.
يقول الأستاذ سيد قطب: “وهكذا يتصوّر المسلم رحمة ربّه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف، ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله؛ فلا يتبرّم بتكاليفه، ولا يضيق بها صدراً، ولا يستثقلها كذلك، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته، ما فرضها عليه. ومن شأن هذا التصوّر، فضلاً عمّا يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس، أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه، وهو يحسّ أنها داخلة في طوقه؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه؛ فإذا ضعف مرة، أو تعب مرة، أو ثقل العبء عليه، أدرك أنه الضعف، لا فداحة العبء! واستجاش عزيمته، ونفض الضعف عن نفسه، وهمّ همة جديدة للوفاء، ما دام داخلاً في مقدروه! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة، كلما ضعفت، على طول الطريق!”([27]).
إن الناظر نظرة تمعّن في العبادات الإسلامية الواجبة والمستحبة على المسلم، يجد أنها تتسم بالوسطية والاعتدال، وأنها بعيدة كل البعد عن الغلو، فلا إفراط فيها ولا تفريط. وقد جاء التوسط في العبادات الإسلامية منسجمًا مع نعمة الله على هذه الأمة المحمدية بأن جعلها أمّة وسطًا، قال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا](البقرة:143).
فبما أنها أمة وسط، فكذلك العبادات المفروضة عليها تتسم بالوسطية والاعتدال، فلا إفراط فيها كالنصارى، ولا تفريط كاليهود.
ويمثّل النصارى منهج الإفراط؛ حيث ابتدعوا عبادات قاسية على النفس، تحرّم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيّبات الحياة، وبالغوا في ذلك حتى أصبحت العبادة في نظرهم لا تخرج عن تعذيب البدن. وقد ذمّهم الله سبحانه، حيث قال: [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ](الحديد:27).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختياراً من بعض أتباع عيسى عليه السلام، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وابتعاداً عن أوضار الحياة، ولم يكتبها الله عليهم ابتداءً، ولكنهم حين اختاروها، وأوجبوها على أنفسهم، صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها، ويحافظوا على مقتضياتها؛ من تطهّر وترفّع، وقناعة وعفّة، وذكر وعبادة… ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوساً وشعائر خالية من الروح، وأن يتخذها الكثيرون مظهراً عارياً من الحقيقة. فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل: [فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون]…”([28]).
ويمثل اليهود منهج التفريط، ووصف القرآن بُعدهم عن العبادة في قوله تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا](مريم:59).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “خلف من بعدهم خلف بعيدون عن الله، [أَضَاعُوا الصَّلَاةَ]، فتركوها وجحدوها، [وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ]، واستغرقوا فيها. فما أشد المفارقة، وما أبعد الشبه بين أولئك وهؤلاء!
ومن ثم يتهدّد السياق هؤلاء الذين خالفوا عن سيرة آبائهم الصالحين، يتهددهم بالضلال والهلاك: [فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا]، والغي: الشرود والضلال، وعاقبة الشرود: الضياع والهلاك”([29]).
قال الله تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ](القصص:77).
“أي: اطلب الآخرة فيما آتاك الله من الثروة والغنى، بأن تتصدق، وتصل الرحم، ولا تنس أن تبقي لنفسك شيئًا يقيك العوز، ويمنعك من إراقة ماء وجهك”([30]).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “وفي هذا يتمثّل اعتدال المنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلّق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة، بل يحضّه على هذا، ويكلّفه إياه تكليفاً، كي لا يتزهّد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس؛ وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدّد، وتتحقّق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها…
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة”([31]).
الوسطية والتوازن في الجهاد:
اختلفت الرؤى – في واقعنا المعاصر – حول الجهاد في سبيل الله، ما بين قاعد عاجز لا يفكر في الاستعداد وإعداد العدّة للجهاد، وما بين متسرّع ومطالب بجهاد الكفر وأهله، دون الحصول على الحد الأدنى من القدرة! وبين هذين الطرفين يقع الموقف العدل المتوازن.
ويتحدّث سيد قطب – رحمه الله – عن هذين الطرفين المذمومين؛ فيقول: “وهكذا نرى صفحةً من حَسْم الإسلام وجديّته، إلى جانب سماحته وتغاضيه؛ هذه في موضعها، وتلك في موضعها، وطبيعة الموقف، وحقيقة الواقعة، هي الّتي تحدّد هذه وتلك.
ورؤية هاتين الصفحتين، على هذا النحو، كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم، كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي؛ السمة الأساسية الأصيلة.. فأمّا حين يجيء المتشدّدون فيأخذون الأمر كله عنفاً وحماسةً وشِدّةً واندفاعاً، فليس هذا هو الإسلام! وأمّا حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهـاد في الإسلام، كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! فيجعلون الأمر كله سماحة وسلماً وإغضاءً وعفواً، ومجرّد دفاع عن الوطن الإسلامي، وعن جماعة المسلمين، وليس دفعاً عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة، وليس تأميناً لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة، وليس سيادة لنظام فاضل، وقانون فاضل، يأمن الناس كلّهم في ظلّه… فأمّا حينئذ، فليس هذا هو الإسلام”([32]).
وعن التوازن بالكفّ عن القتال في (مكة)، يقول سيد قطب: “وكان هذا الكفّ لحكمة قدّرها الله.. نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري، الذي لا يحصي ولا يستقصي.
وأول ما نراه من أسباب هذا الكفّ، أنه كان يراد أولاً تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالاً للأمر، وخضوعاً للقيادة، وانتظاراً للإذن. وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة، يستجيبون لأول ناعق، ولا يصبرون على الضيم…
والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكفّ عن القتال في مكة.. هو أن البيئة العربية، كانت بيئة نخوة ونجدة، وقد كان صبر المسلمين على الأذى، وفيهم من يملك ردّ الصاع صاعين، مما يثير النخوة، ويحرّك القلوب نحو الإسلام؛ وقد حدث بالفعل عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب، كي يتخلّوا عن حماية الرسول – صلى الله عليه وسلم -، أنه عندما اشتد الاضطهاد لبني هاشم، ثارت نفوسٌ نجدةً ونخوةً، ومزّقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة. وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكفّ عن المقاومة، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة.
ومما يتعلّق بهذا الجانب، أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حرباً دموية داخل البيوت، فقد كان المسلمون حينذاك فروعاً من البيوت، وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها، وتفتنهم عن دينهم؛ ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام. ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة”([33]).
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
من خصائص هذه الأمَّة العمليَّة: قيامها بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وهذه شهادة الله لها: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ]([34]). والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، أوجبه الله على من قبلنا، ولكنهم فرَّطوا وضيَّعوا: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ]([35]). ونجد مصداق خيريَّة هذه الأمَّة لقيامها بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أنَّه منذ بُعِثَ رسول الله ﷺ إلى يومنا الحاضر، وهذا الرّكن العظيم لم ينقطع، ولم يُترك، كما فعل بنو إسرائيل.
قال الأستاذ سيد قطب: “فهي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لا عن مجاملة، ولا عن محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وليس توزيع الاختصاصات والكرامات، كما كان أهل الكتاب يقولون: [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ]([36]). كلا إنّما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشريَّة من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يُحدّد المعروف والمنكر”([37]).
إنَّ هذه الخيريَّة لها أسباب، ولها حقيقة، حقيقة لا بدّ أن توجد في الواقع، وأن ترى في الحياة، وليست مجرّد تصوّر ذهني، وفلسفة غائبة. وهذه الخيريَّة مسألة نسبيَّة بالنسبة للأمَّة، فقد ترتفع لتبلغ الذّروة، كما كانت الحال في جيل الصّحابة والقرون المفضّلة، وقد تنحسر في مجموعات وأفراد، كما هي في القرون المتأخرة، وذلك تبعًا لوجود مقومات الخيريَّة وصيانتها([38]).
الوسطية في الأخلاق:
جاء الإسلام وسطاً في أخلاقياته، فلم ينظر إلى الإنسان باعتباره خيرًا محضاً، أو شرّاً محضاً؛ أي: لم يكن تعامله مع الإنسان على أنه ملك أو شيطان، وإنما تعامل معه بما يتوافق مع أصل فطرته وطبيعة تكوينه، فهو مخلوق مكلّف مختار، صالح للطاعة أو المعصية، فيه الجانب المادي والجانب الروحي.
والمنهج الوسطي يوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، ويعطي كلاً حسب حاجته دون إفراط أو تفريط، وكان المذهب الشائع عند النصارى، أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله: تعذيب النفس واحتقارها، وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة، واعتقاده أنه لا حياة (للروح) إلّا بتعذيب الجسد! وكل هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء، وليس لها أثر في شريعة الله، وقد تفضّل الله على هذه الأمة بجعلها أمة وسطاً، تعطي الجسد حقّه، والروح حقّها، فأحلّ لنا الطيبات، وحرّم علينا الخبائث، وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا جثمانيين خلّصاً كالأنعام، ولا روحانيين خلّصاً كالملائكة، بل جعلنا أناسيّ.. كله بهذه الشريعة المعتدلة([39]).
فلقد أمرنا الله بردّ الاعتداء الظالم علينا في قوله تعالى: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ](البقرة:194).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “فالذي ينتهك حرمة الشهر الحرام، جزاؤه أن يُحْرَم الضمانات التي يكفلها له الشهر الحرام. وقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان؛ كما جعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان؛ تصان فيها الدماء، والحرمات، والأموال، ولا يمسّ فيها حيّ بسوء. فمن أبى أن يستظلّ بهذه الواحة، وأراد أن يحرم المسلمين منها، فجزاؤه أن يحرم هو منها. والذي ينتهك الحرمات لا تصان حرماته، فالحرمات قصاص.. ومع هذا، فإن إباحة الرد والقصاص للمسلمين، توضع في حدود لا يعتدونها، فما تباح هذه المقدسات إلا للضرورة، وبقدرها: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ].. بلا تجاوز، ولا مغالاة.. والمسلمون موكولون في هذا إلى تقواهم.. وقد كانوا يعلمون – كما تقدّم – أنهم إنما ينصرون بعون الله، فيذكّرهم هنا بأن الله مع المتقين، بعد أمرهم بالتقوى.. وفي هذا الضمان كل الضمان..”([40]).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “ويؤكّد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا].. فهذا هو الأصل في الجزاء، مقابلة السيئة بالسيئة، كي لا يتبجّح الشر ويطغى، حين لا يجد رادعاً يكفّه عن الإفساد في الأرض، فيمضي وهو آمن مطمئن! ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله، وإصلاح النفس من الغيظ، وإصلاح الجماعة من الأحقاد.. وهو استثناء من تلك القاعدة. والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة.. فهنا يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء… وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز.. فليس له ثمة وجود.. وهو شر يطمع المعتدي، ويذل المعتدى عليه، وينشر في الأرض الفساد!
[أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ].. وهذا توكيد للقاعدة الأولى: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا]، من ناحية، وإيحاء بالوقوف عند ردّ المساءة أو العفو عنها، وعدم تجاوز الحد في الاعتداء، من ناحية أخرى”([41]).قال الله تعالى: [لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا](النساء: 148).
قال السمعاني: “يجوز له أن يشتم، ولكن بمثل ما شتم، لا يزيد عليه، بما لم يكن قذفًا”([42]).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “إن المجتمع شديد الحساسية، وفي حاجة إلى آداب اجتماعية تتفق مع هذه الحساسية، ورُبّ كلمة عابرة لا يحسب قائلها حساباً لما وراءها؛ ورُبّ شائعة عابرة لم يرد قائلها بها إلا فرداً من الناس.. ولكن هذه وتلك تترك في نفسية المجتمع، وفي أخلاقه، وفي تقاليده، وفي جوّه، آثاراً مدمرة؛ وتتجاوز الفرد المقصود إلى الجماعة الكبيرة.
والجهر بالسوء من القول، في أيّ صورة من صوره، سهل على اللسان، ما لم يكن هناك تحرّج في الضمير وتقوى لله. وشيوع هذا السوء، كثيراً ما يترك آثاراً عميقة في ضمير المجتمع.. كثيراً ما يدمّر الثقة المتبادلة في هذا المجتمع، فيخيّل إلى الناس أن الشر قد صار غالباً… وكثيراً ما يذهب ببشاعة السوء طول الألفة، فالإنسان يستقبح السوء أول مرة بشدة؛ حتى إذا تكرر وقوعه، أو تكرر ذكره، خفّت حدة استقباحه والاشمئزاز منه؛ وسهل على النفوس أن تسمع، بل أن ترى، ولا تثور للتغيير على المنكر!
ذلك كله فوق ما يقع من الظلم على من يتهمون بالسوء، ويشاع عنهم، وقد يكونون منه أبرياء، ولكن قالة السوء حين تنتشر؛ وحين يصبح الجهر بها هيّناً مألوفاً، فإن البريء قد يتقوّل عليه مع المسيء؛ ويختلط البر بالفاجر، بلا تحرّج من فرية أو اتهام؛ ويسقط الحياء النفسي والاجتماعي الذي يمنع الألسنة من النطق بالقبيح؛ والذي يعصم الكثيرين من الإقدام على السوء.
إن الجهر بالسوء يبدأ في أول الأمر اتهامات فردية، سبّاً وقذفاً، وينتهى انحلالاً اجتماعياً، وفوضى أخلاقية، تضلّ فيها تقديرات الناس بعضهم لبعض أفراداً وجماعات؛ وتنعدم فيها الثقة بين بعض الناس وبعض، وقد شاعت الاتهامات، ولاكتها الألسنة بلا تحرّج.
لذلك كلّه كره الله للجماعة المسلمة أن تشيع فيها قالة السوء، وأن يقتصر حق الجهر بها على من وقع عليه ظلم؛ يدفعه بكلمة السوء يصف بها الظالم؛ في حدود ما وقع عليه منه من الظلم!
[لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ].. ففي هذه الحالة يكون الوصف بالسوء، ويشمل ما تعبّر عنه المصطلحات القانونية بالسب والقذف، انتصاراً من ظلم، ودفعاً لعدوان، ورداً لسوء بذاته، قد وقع بالفعل على إنسان بذاته؛ وتشهيراً بالظلم والظالم في المجتمع؛ لينتصف المجتمع للمظلوم؛ وليضرب على يد الظالم؛ وليخشى الظالم عاقبة فعله، فيتردد في تكراره.. والجهر بالسوء عندئذ يكون محدّد المصدر، من الشخص الذي وقع عليه الظلم، محدّد السبب، فهو الظلم المعيّن الذي يصفه المظلوم، موجهاً إلى شخص بذاته، هو الذي وقع منه الظلم.. عندئذ يكون الخير الذي يتحقق بهذا الجهر مبرراً له؛ ويكون تحقيق العدل والنصفة هو الهدف، لا مطلق التشهير..إن الإسلام يحمي سمعة الناس، ما لم يظلموا، فإذا ظلموا لم يستحقوا هذه الحماية؛ وأُذن للمظلوم أن يجهر بكلمة السوء في ظالمه؛ وكان هذا هو الاستثناء الوحيد من كفّ الألسنة عن كلمة السوء!
وهكذا يوفق الإسلام بين حرصه على العدل الذي لا يطيق معه الظلم، وحرصه على الأخلاق الذي لا يطيق معه خدشاً للحياء النفسي والاجتماعي..
ويعقب السياق القرآني على ذلك البيان، هذا التعقيب الموحي: [وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا].. ليربط الأمر في النهاية بالله، بعد ما ربطه في البداية بحب الله وكرهه: [لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ..].. وليشعر القلب البشري أن مردّ تقدير النية والباعث، وتقدير القول والاتهام، لله، السميع لما يقال، العليم بما وراءه، مما تنطوي عليه الصدور”([43]).
والقرآن أظهر الوسطية في الأخلاق في كثير من الآيات، وقد ظهر ذلك واضحًا جليًا في ذمّه للكبر، وذمّه للذلة والمهانة، وكان وسطًا في ذلك.
قال الله تعالى في ذمّ الكبر: [وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ](غافر:27).
قال الطبري: “إني استجرت أيها القوم بربي وربكم، من كل متكبر عليه، تكبر عن توحيده، والإقرار بألوهيته وطاعته، لا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه خلقه”([44]).
يقول سيد قطب – رحمه الله -: “ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى: [إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أو أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ]؟!!
فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني، عن موسى رسول الله – عليه السّلام -: [إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أو أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ]؟!! أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد، عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح، في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث، لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟
إنه منطق واحد، يتكرّر كلّما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصّلاح والطغيان، على توالي الزمان، واختلاف المكان. والقصّة قديمة مكرّرة، تعرض بين الحين والحين.
فأمّا موسى – عليه السلام – فالتجأ إلى الركن الرّكين، والحصن الحصين، ولاذ بالجناب الّذي يحمي اللائذين، ويجير المستجيرين: [وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ].. قالها، واطمأن، وسلّم أمره إلى المستعلي على كل متكبّر، القاهر لكل متجبّر، القادر على حماية العائذين به من المستكبرين. وأشار إلى وحدانية الله ربِّه وربِّهم، لم ينسها، أو يتركها أمام التّهديد والوعيد، كما أشار إلى عدم الإيمان بيوم الحساب، فما يتكبّر متكبِّر وهو يؤمن بيوم الحساب، وهو يتصوُّر موقفه يومئذ حاسِراً خاشِعاً خاضِعاً ذليلاً، مجرَّداً من كلِّ قوّة، ما له من حميم، ولا شفيع يطاع”([45]).
([1]) انظر: لسان العرب، ابن منظور: 7/426، مقاييس اللغة، ابن فارس: 6/108.
([2]) انظر: مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، عثمان ضميرية: 156.
([4]) انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني: 464، 465، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، 5/209 عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، 4/309.
([5]) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، للإمام أبي السعود محمد بن محمد العمادي: 1/133، مطبعة محمد صبيح، القاهرة.
([6]) في ظلال القرآن: 1/131-132.
([8]) في ظلال القرآن: 2/258-259.
([9]) في ظلال القرآن: 2/890 بتصرف.
([10]) انظر: لباب التأويل، الخازن: 4/87.
([12]) انظر: التيسير في أحاديث التفسير، المكي: 6/326.
([13]) انظر: معالم التنزيل، البغوي: 2/171.
([14]) رواه الإمام أحمد في مسنده: 1/435، 465، والحاكم في مستدركه: 2/318، وقال: صحيح الإسناد.
([15]) التحرير والتنوير، ابن عاشور: 5/173.
(16) رواه الطبراني: 17/286 ، رقم (790) . قال الهيثمي: 7/37: رجاله رجال الصحيح.
([18]) انظر: في ظلال القرآن: 1/26.
([19]) انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي: 332.
([20]) انظر: في ظلال القرآن: 1/312.
([21]) انظر: في ظلال القرآن: 1/146.
([22]) خصائص التصور الإسلامي: 141، 142، باختصار.
([23]) الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء، ابن قيم الجوزية: 255.
([24]) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (50)، رقم الحديث (2686)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الرقائق، باب الورع والتوكل، رقم الحديث (731).
([25]) في ظلال القرآن: 5/2758.
([26]) في ظلال القرآن: 5/2711… ومن هنا ندرك سر مزاح النبيﷺ وانبساطه كثيرًا مع أصحابه، ومع أزواجه، في حلّه وترحاله؛ لأن الحياة لا يمكن أن تسير على وتيرة واحدة، إنْ في جانب التعبد الدائم المنعزل عن الحياة والواقع، أو الركون إلى الدنيا والانسلاخ من كل أسباب التربية والاستقامة، فلا بد إذًا أن يعيش المرء حياته مقدرًا كل ساعة كيف يقضيها؟ وأين؟ ومتى؟ ولماذا؟ ومع من؟ بِهذا يكون قد حقق معنى التوازن والاعتدال.
([30]) أوضح التفاسير، محمد الخطيب: 1/479.
([32]) في ظلال القرآن: 2 /734.
(34) سورة آل عمران، الآية: 110.
(35) سورة المائدة، الآية: 78ـ79.
([38]) الوسطية في ضوء القرآن الكريم: 95.
([39]) روائع البيان في تفسير آيات الأحكام، محمد علي الصابوني: 1/166.