نظرة العلامة ناصر سبحاني حول شروط المرويات في علم الحديث (الحلقة 22)

د. عمر عبد العزيز
تحدثنا في الحلقة الماضية عن نظرة العلامة ناصر سبحاني حول شروط الرواة.. وقرّرنا أن نتحدث في هذه الحلقة عن نظرته حول شروط المرويات. ونتناول ذلك من خلال المحاور الآتية:
أولاً/ تأكيد الشهيد على أهمية الحديث؛ سنداً ومتناً:
يرى كثير من النقاد والباحثين – ممن كتبوا عن مناهج علماء الحديث – أن “التفحّص النقدي لمتن([1]) الأحاديث لم تحْظ بالعناية اللازمة، كما فُعل مع السند وسلسلة الرواة، والذي نشأ عنه علم يعدّ من أرقى العلوم، وهو علم الجرح والتعديل”([2]). إلا أن هذا الرأي، رغم ما فيه من الصحة، لكن ليس بالدرجة التي تثار من قبل المتأثرين بالمستشـرقين، خصوصاً إذا قارنّا بين الجهود التي بُذلت في مجال الاهتمام بالسند والرجال، وبين ما بُذل في مجال المتن.
أقول ذلك لأن العلماء قد اهتموا بنصوص الأحاديث ومتونها بشكل آخر، من خلال إبداعاتهم لعلوم تفرّعت عمّا يتعلّق بالمتن في علوم الحديث؛ كعلم غريب الحديث، الذي يتصدى لشـرح غريب الحديث([3])، وكذلك علم مشكل الحديث، أو مختلف الحديث، وقد يكون أقرب علم يتعلّق بمتون الحديث، لأنه يعالج ما يتعارض ظاهره مع النصوص الأخرى، أو القواعد الشـرعية([4])، وعلم الناسخ والمنسوخ في الحديث([5])، وكذلك علم علل الحديث([6]).
ورغم ذلك، فهناك حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن هناك بعض الملاحظات على الجهود المبذولة في مجال دراسة متن الحديث، لا سيما من جانب مقارنته بالقرآن، وعرضه على المقاصد، وجعْل ما أقره القرآن الكريم من القواعد العامة والضوابط الكلية، معياراً لصحة متن الحديث، والروايات، وسقمها، بصـرف النظر عن صحة السند. وهذا أمر تصدّى له العلامة ناصر سبحاني بعلمية فائقة.
ثانياً/ التحقيق في متن الحديث، بجانب سنده، معيار للتقييم:
لقد عدّ سبحاني هذا الموضوع – أي دراسة متن الحديث بجانب سنده، وجعل القرآن والقواعد التي أقرّها معياراً للتقييم – قضية محوريّة، تجدر أن تكون على رأس قائمة أولويات الاهتمامات العلمية، كخطوة جوهرية في مسيرة إصلاح المنظومة الفكرية للمسلمين.
ومن هنا دعا الشهيد – بصـراحة وجرأة – الصفوة الثقافية والعلمية المعاصرة والمؤسسات (الأكاديمية)، لدعم النهوض العلمي بالتجديد وإحياء روح الاجتهاد وممارسته، وعدم مسايرة التقليد الأعمى، الذي كان يأباه سلف الأمة، وسعى لإزالة الضبابية الطاغية على جوانب من المنظومة الفكرية الإسلامية، والتصدّي للإشكاليات التي زامنت تدوين الأحاديث والآثار، والتي بقي جانب منها لحد الآن دون علاج.
وفي هذا السياق، دعا لإعادة صياغة جانب من مناهج العلوم الإسلامية، وتطوير كثير منها، وإضافة قواعد وضوابط وشروط لم يتحدث السلف عن كثير منها، لأسباب تاريخية وبيئية، أو تحدّث عنها بعضهم في فترات، ولكن طواها الزمن لأسباب فكرية وسياسية. كما دعا للاجتماع على الثوابت المجمع عليها، بجعل القرآن والمقاصد التي أقرّها، والقواعد التي وضعَها، حَكَماً ومعياراً لكثير من الأمور.
شهادة ذات أهمية، ومناشدة:
ومما ينبغي الشهادة فيه – وأنا لها قائم – أن الشهيد ناصر سبحاني لم يُقحم نفسه، ولا سعى لإقحام غيره، في مغبة متاهات علمية، وصراعات جدلية، ولا كان متأثراً بأحد من الفلاسفة، أو المستشـرقين، أو غيرهم، ممن شكّك في منظومات الفكر والثقافة والتاريخ للمسلمين، بل كان يعيش مع القرآن الكريم، والسيرة النبوية، عيشة متفاعلة، قلّ نظيرها، عاشهما بكيانه وأحاسيسه ومشاعره، لذا لم تكن دعواته للتجديد إلا من خلال الدعوة لفتح باب التحقيق الدقيق، والاستقراء العلمي، تماماً كمحققي أسلاف الأمّة، الذين كان سبحاني نفسه من المفتخرين بهم؛ فدعا لتحرير المناهج العلمية، وتنقيتها من شوائب التقليد والتزمّت الفقهي، وإزالة غبار الركود عليها، وإكمال الأدوات العلمية، بما منحه الله البشـرية في العصر الحاضر، وطلب أن يوضع حدّ للانبهار المفرط بكل ما هو قديم، الذي يمنع التجديد والتطوير والإبداع والاجتهاد، فلقد كان السلف أبطالاً لها لأيامهم، وحرصوا أن تستمر تلك الروح الإبداعية التجديدية في الأجيال التي تليهم، ليكونوا أبطالاً لأيامهم هم كذلك.
ولهذا، لو وصفنا مصبّات سعيه العلمي باختصار، لقلنا:
كان ينصبّ سعيه في مواجهة قصور المناهج، وغرابة الفكر، وقداسة التقليد، وغياب المقاصد، وضبابية الرؤية، والخلل في فهم مقام النبوة والرسالة، ثم في تصوّر المؤمنين، ووظائفهم، تجاه كتاب الله سبحانه.
ثالثاً/ لا بد من التأكد من صحة المتن، مع صحة الإسناد:
لا شك أن التحقيق في الرواة، والتأكد من كونهم عدولاً وضابطين – أي كونهم ثقات – ليس كافياً للتأكد من صحة الحديث، لأن هناك شرطاً آخر مهماً يتعلّق بنصّ الحديث أو الكلام المروي عن الرسول ﷺ. فلقد اشترط علماء الحديث في الحديث الصحيح – بعد شرطي العدل والضبط، المتعلقين بالراوي – أن لا يكون – أيْ: متن المروي – “شاذاً، ولا معلّلاً”([7])، ومعنى الشاذ هو أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه من هو أوثق منه، والمعلّل أن يكون فيه علة تقدح في صحته([8]).
هذا ما اشتهر بين علماء الحديث، ولكن الشهيد – رغم تأييده – لهذا القدر من الشـروط، يؤكد على إضافة شرط يراه أولى وأهمّ مما ذكره العلماء، وهو شرط البحث عن أصول المرويات في القرآن الكريم، أو توقيف الاحتجاج بالأحاديث على النظر في أصولها من الكتاب. فيقول: “لا يمكن أن يصح – في مجال الحقائق التي ينبغي أن يُؤمَن بها – من المرويات، إلا ما هو تبيين لها في كتاب الله بعبارات أخر”. ثم أكّد في هذا السياق على ما أكّده في مواقع عديدة من أن كتاب الله لم يغادر من الحقائق التي ينبغي الإيمان بها إلا أحاط بها، لا سيما في مجالات: الترغيب والترهيب؛ الضروريين لتزكية النفس، وقواعد العمل الصالح وأصوله، والحكمة؛ التي هي الطريقة المثلى لتطبيق تلك القواعد.
ويستخلص لإبداء رأيه هذا بالقول: “والحاصل أنه ما من قول أو فعل أو تقرير لرسول الله ﷺ إلا وهو مذكور في كتاب الله بخصوص أو بعموم ما يشمله، وهذا – لا ريب فيه – يقتضـي أن يُتوقف في القول بصحة ما يُروى عن رسول الله حتى يُرجع إلى كلام الله، فإن وجد بخصوصه – وذلك إذا كان متعلّقاً بأمر اعتقادي، أو ترهيباً أو ترغيباً، أو متحدّثاً عن قاعدة كلية، أو مذكّراً بما صُرّح به في القرآن من الحكمة -، أو بعموم ما يشمله – وذلك إذا كان من قبيل الحكمة غير المذكورة بخصوصها في القرآن([9]) – قُبِل، وإلا رُدّ – كائناً ما كان سنده – كما يُفعَل بما يسمّى شاذاً”([10]).
وفي عدم كفاية كون الإسناد ثقة، يقول ابن الجوزي: “وقد يكون الإسناد كلّه ثقات، ويكون الحديث موضوعاً، أو قد جرى فيه تدليس، وهذا أصعب الأحوال، ولا يعرف ذلك إلا النقاد”([11]). وقال: “إن المستحيل لو صدر عن الثقات رُدّ، ونسب إليهم الخطأ. ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات، فأخبروا أن الجمل قد دخل في سّم خِياط، لما نفعتنا ثقتهم، ولا أثّرت في خبرهم. فكل حديث رأيته يخالف المعقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره. وقد يتفق رجال الحديث كلّهم ثقات (كذا)، والحديث موضوع، أو مقلوب، أو مدلّس”([12]).
على كل حال، فالذي قاله الشهيد ناصر مخالف لقول جمهور العلماء، الذين أكّدوا على “أن السنة يمكن أن تأتي بحكم جديد بجانب القرآن الكريم، كالذي نرى مثلاً في تحريم السنّة للجمع بين المرأة وعمّتها، وبين المرأة وخالتها، في الزواج”([13])، مع أن آية المحرّمات في (سورة النساء) لم تذكر إلا تحريم الجمع بين المرأة وأختها. ومن ذلك إرث الجدّة، وقتل المسلم بالكافر، وتحريم الحمر الأهلية، وتحريم غير الأمهات، والأخوات، من الرضاعة”([14])، وغير ذلك”([15]).
ولكن مخالفة قول الشهيد لقول جمهور العلماء لم تمنعه من الإفصاح بما رآه صواباً، كونه عالماً لم يكن يرى من الجائز أن يستر أهل العلم ما حقّقوا فيه، وتأكّدوا منه، ولو كان مخالفاً للجمهور. ولهذا استبق التوقعات فقال: “وما غائب عني أن قولي هذا غريب غريب، وأن القيام بمقتضاه عسير عسير، وأن هناك في الناس آذاناً لا تتلقاه إلا لتمجّه، وقلوباً لا تُقْبِلُ عليه حتى تشمئز منه، ولكن ذلك – على ثقله – لا يصـرفني أن أقول ما أراه صواباً، وأريد به وجه الله. وكيف لا؟ وما عدا ذلك مما جاء في كتب علوم الحديث نصفُ هذا الفن، وذلك نصفه الآخر، بل نصفه الأهم، لا يضيره أنه قد اتّخذ من قديم الزمان مهجوراً”([16]).
رابعاً/ رأي العلامة سبحاني في الصحيحين:
ومن ملاحظاته الأخرى على ما ورد لعلماء الحديث، ما يتعلّق بصحيحي البخاري ومسلم، فكان للشهيد سبحاني رأي مساند لما ذكره الأوائل من بعض علماء السلف، في أن كون رجال الشيخين (البخاري ومسلم) جازا القنطرة، تحميل لاثنين من كبار علماء الأمة لحملٍ ما ادّعيا حمله، وما كانا ليتحملاه. يقول الشهيد ناصر: “مما يؤسف أولي الألباب ما شاع بين المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم، من أن رجال الشيخين جازوا القنطرة، ولئن كان يركن إلى هذا من يؤثرون راحة التقليد على مشقة الاجتهاد، ما يكون لمن لم يقرّنوا في أصفاد الكسل الذهني، ولم تفتّ في سواعدهم مهابة الذين من قبلهم، أن يقبلوه، فإنه قولٌ ما عند أهله به من سلطان. يقولون: قد أجمعت الأمة على أن الصحيحين أصحّ كتابين بعد كتاب الله. نقول: نعم، قد حصل الاتفاق على ذلك – وليس الإجماع -، ولكن هذا لا يدلّ على المدّعى، فإنهم لم يتفقوا قطّ على أن كل ما فيهما صحيح، فلم يلزم الاتفاق على أن كل رجالهما جامع بين العدالة والضبط، بل لعلك لا تجد محقّقاً إلا جاء بخلاف ذلك. وما أكثر ما يُدَّعى الإجماع في مواطن الاجتهاد، وما ثمة إلا اتفاق”([17]).
قلت: وليس في قوله هذا غرابة، فلقد أكّد محدّثون كبار على أن ادعاء الإجماع في أن كل ما في الصحيحين صحيح، لا أساس له. فلقد انتقد بعض أحاديثهما أحمد بن حنبل (ت: 241هـ/855م)، وأبو الحسن الدارقطني (ت:385هـ/995م)، والبيهقي (ت:458هـ/1065م)، وأبو عبد الله الذهبي (ت:848هـ/1347م)، وأبو الفضل الهروي (ت:405هـ/1014م)، وأبو زرعة الرازي (ت:264هـ/877م)، وابن الجوزي (ت:592هـ/1195م)، وابن حزم الأندلسـي (ت:456هـ/1063م)، وابن تيمية (ت:728هـ/1327م). وابن القيم الجوزية (ت:750هـ/ 1349م)، ومن المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني (ت:1420هـ/1999م)، وغيرهم.
ولقد ألّف بعض هؤلاء كتباً مخصصة أوردوا فيها الأحاديث الضعيفة، والمعلولة، في جامعي البخاري ومسلم([18])، كرسالة (الإلزامات والتتبع)، للحافظ الدارقطني، التي أخرج فيها (218) حديثاً في الصحيحين، سمّاها معلولة، وقال: فيها “أحاديث معلولة، اشتمل عليها كتاب البخاري ومسلم، أو أحدهما، بيّنتُ عِلَلَها، والصواب منها”([19]). وهناك كتاب (علل الأحاديث في صحيح مسلم)، لأبي الفضل محمد بن عمار الشهيد([20])، الذي ذكر فيه (36) حديثاً معلّلا. وكذلك (غرر الفوائد المجموعة في ذكر أحاديث صحيح مسلم المقطوعة)، لرشيد الدين يحيى بن علي العطار([21])، و(ديوان الضعفاء والمتروكين)، للإمام الذهبي، وغيرها.
ولكن كل هذا – في نظري – لا ينقص من شأن الجامع الصحيح للإمام البخاري، يليه الجامع الصحيح للإمام مسلم النيشابوري، اللذين يعتبران أصحّ ما بين أيدي المسلمين بعد كتاب الله تعالى، يؤخذ منهما معظم الأحاديث التي تعكس تفاصيل الأحكام الفقهية.
[1]– المتن في اللغة: يدل على الصلابة، والمتن: ما صلب من الأرض وارتفع. وفي الاصطلاح: “ما ينتهي إليه غاية السند من الكلام”. (ينظر: عبد الرحمن السيوطي، تدريب الراوي،1/ 42.
[2] – علم الجرح والتعديل هو: علم يبحث فيه عن جرح الرواة، وتعديلهم، بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب تلك الألفاظ. وهو من فروع علم رجال الأحاديث. انظر: صديق القنوجي، أبجد العلوم، ص: 357.
[3]– كالذي فعله ابن الأثير الجزري في عمله الكبير: النهاية في غريب الحديث والأثر.
[4]– كالذي فعله ابن قتيبة النيشابورى، في كتابه: تأويل مختلف الحديث، أو أبو جعفر الطحاوي، في كتابه: مشكل الآثار.
[5]– ألف فيه أبوبكر، محمد، بن موسى، الحازمي، كتابه: الناسخ والمنسوخ من الآثار، وكتب أخرى.
[6]– علم علل الحديث، هو: العلم الذي يبحث عن الأسباب الخفية، من حيث قدحها في صحة الحديث. انظر: صبحي الصالح، علوم الحديث، ص: 112.
[7]– انظر: ابن الصلاح الشهرزوري، علوم الحديث، ص: 10. وابن كثير، الباعث الحثيث، دار الفكر، ص: 6.
[8] – محمد جمال الدين القاسمي، قواعد الحديث، تحقيق: محمد البيطار، مطبعة عيسى الحلبي، ص: 130.
[10] – ناصر سبحاني، رسالة في علوم الحديث، ص: 34.
[11] – ابن الجوزي، كتاب الموضوعات من الأحاديث المرفوعات، ص: 65.
[12] – المصدر نفسه، ص: 70.
[13] – البخاري، صحيح البخاري، كتاب النكاح، رقم الحديث (5109).
[14] – في حديث: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، في صحيح البخاري، كتاب الشهادات، رقم الحديث (2645)، ومسلم في الرضاع برقم (1447).
[15] – محمد أديب الصالح، مصادر التشريع الإسلامي، ص: 153. ولكن كان الشهيد ناصر يؤكّد على ما أكّده الشاطبي في الموافقات، من أن هناك أصولاً لكل ما قاله رسول الله ﷺ، مما ذكرناه في أعلى الصفحة، (انظر للتأصيل القرآني لها: الموافقات، 4/53 فما بعد).
[16] – ناصر سبحاني، علوم الحديث، ص: 35.
[17]– ناصر سبحاني، المصدر نفسه، ص: 33.
[18] – انظر: مقدمة ابن الصلاح الشهرزوري، ص: 10. والهدي الساري، مقدمة فتح الباري، لابن حجر العسقلاني. ومجموع الفتاوى، لابن تيمية، 1/256. وسلسلة الأحاديث الضعيفة، للشيخ ناصر الدين الألباني، 1/142.
[19] – حققه: الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، وطبع في بيروت، دار الكتب العلمية، 1984م.
[20] – حقّقه: علي الحلبي الأثري، وطبع في الرياض، مطبعة دار الهجرة، 1412ه/1991، في 184 صفحة.
[21] – حقّقه: سعد عبد الله الحميّد، وطبع في المدينة المنورة، مكتبة المعارف،1421ه/2000م، في424صفحة. 1 حققه: حماد بن محمد الأنصاري، وطبع في دمشق، دار الكتب الظاهرية، 1366ه/1974م، في 80 صفحة.