الصراع الخفي بين فرنسا العَلمانية والكنيسة الكاثوليكية، بمناسبة الافتتاح الشاذ للأولمبياد
أ. د. فَرسَت مَرْعي
تعد فرنسا – دون شك – من أكبر الدول الكاثوليكية، وهي البنت الكبرى للكاثوليكية التي يشار إليها بالبنان من نواح عديدة: تاريخية، وديموغرافية، وفكرية، واقتصادية. ففرنسا إحدى الدول الكبرى التي لها مقعد خاص في مجلس الأمن، وهي صاحبة الثورة الفرنسية التي غيّرت مجرى التاريخ الأوروبي بل العالمي من ناحية الحقوق الإنسانية والمساواة وانتشار الفكر الليبرالي، كما أنها من الجانب الآخر تعدّ أول دولة عَلمانية (1905م) استناداً إلى ثورتها سنة 1789م.
والعلمانية تعني – في جانبها السياسي – اللادينية في الحكم، وفصل الدين عن الدولة، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة (العلم/ SCIENCE) التي اشتُقَّت منها، ومعناها الأقرب إلى الصحة هو (الدنيوية)، و(اللادينية)، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل، وحساب المصلحة، بعيداً عن الدين. ويعرّف (قاموس أكسفورد/Oxford ) العَلمانية بأنها: “العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة (الدنيا)، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى (الآخرة)”.
ويبدو أن الأوائل الذين أدخلوا هذا المفهوم إلى اللغة العربية، بدا لهم المصطلح صادماً بحمولته هذه التي تلغي الدين من حياة الناس؛ فاختاروا ترجمة تقترب من العِلم، وتُيسّر انسيابية المفهوم إلى داخل المجتمعات المسلمة.
فمدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة، وعن حياة المجتمع، وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربّه؛ فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسيم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما فقط.
ويستخدم في الفضاء الفرنكفوني مصطلح آخر؛ هو اللائيكية Laïcité))، وهو يحمل في طيّاته معنى خاصاً مرتبطاً بفرنسا تحديداً. وقد عَرَّف المفكر الفرنسي (موريس باربييه)Maurice Barbier)) اللائكية في مفهومها الواسع بأنها “الفصل بين الدين والحقائق الدنيوية”.
لقد مرّت العلمانية الفرنسية بثلاث محطّات كبرى؛ سمّيت المرحلة الأولى – الممتدة من الثورة الفرنسية إلى منتصف القرن التاسع عشـر – بالعلمانية المقدسة، حيث كان الصراع مستحكماً بين الدولة والكنيسة. ثم بدأت مرحلة العلمانية الراديكالية عام 1880م، حين أقرّت القوانين أن الجمهورية ليست بحاجة إلى الله لتسيير أمورها. ففي هذه السنة، شهدت فرنسا سلسلة من الإجراءات المناهضة للدين، حيث أُلغيت عطلة يوم الأحد، وتمّ حظر الرموز الدينية في الأماكن العامة، وأصبحت القوانين تفضّل العلمانيين بشكل متزايد. حتى التعليم لم يسلم من هذه الحملة، حيث تم إنشاء مدارس جمهورية لعزل الطلاب عن تأثير رجال الدين، وأُلغي التعليم المسيحي في المدارس الابتدائية. ووصل الأمر ببعض السياسيين، مثل (جول فيري)، إلى التصريح علانيةً بعدائه للدين والملكية، في حين وصف وزير التعليم الوطني (فنسنت بيلون) هذه الإجراءات بأنها “ولادة جديدة”، و”كنيسة جديدة” برجال دين جدد وقوانين جديدة.
وتواصلت هذه الحملة المناهضة للدين في السنوات التالية، حيث تمّت استعادة قانون الطلاق، وفرضت ضرائب على التجمّعات الدينية، وقام الجيش بقمع هذه التجمّعات بالقوّة، ممّا أدّى إلى مقتل العديد من المؤمنين.
وكان من أثر ذلك أن احتفل بعض السياسيين العلمانيين بهذه الإجراءات، مثل (رينيه فيفياني)، الذي صرّح بأنهم “مزّقوا الضمائر الإنسانية بعيداً عن الإيمان”، و”أطفأوا أضواء السماء التي لن تضاء مرة أخرى”. لكن هذه الإجراءات القمعية أثارت انتقادات بعض المفكرين، مثل (إدوارد بيرث)، الذي أدان “التخفيض الوحشي لحرية غير الملتزمين”، بسبب “العاطفة المناهضة للإكليروس”.
حتى المرأة لم تسلم من هذه الحملة، حيث رفض السياسيون منحها حقّ التصويت، بحجّة أنها ستعرّض الجمهورية للخطر بسبب تأثّرها برجال الدين. وفي خضمّ هذه الأحداث، حاول البابا (ليون الثالث عشر)( 1878 – 1903م) تهدئة التوترات، من خلال إصدار منشور بابوي، يدعو فيه إلى قبول النظام الجمهوري، وحثّ الكاثوليك على احترام السلطة القائمة. لكن هذه الجهود لم تنجح في تهدئة المشاعر المعادية للدين.
وبعد عقود، استمر بعض السياسيين في إظهار عدائهم للدين، حيث صرّح أحد كبار الوزراء بأن “قانون الجمهورية أقوى من قانون الآلهة”. كما أشار الكاتب (آلان فينكيلكراوت) إلى أن فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التي تعتبر الحجاب مشكلة، وحظرته في المدارس.
ولا تزال بعض الأحزاب الماركسية واليسارية تقود حملة فكرية ضد ما أسمته منذ فترة طويلة (أفيون الشعب)؛ هؤلاء الأشخاص أنفسهم الذين يقاتلون في الوقت نفسه حتى النهاية من أجل تقنين ما يسمّى بالمخدّرات (الخفيفة).
وقد أعرب رئيس أساقفة ليون (المونسنيور دي جريماي)، عن قلقه من تحوّل العلمانية من (حياد الدولة) إلى إلحاد يعتبر (دين الدولة).
ثم جاءت المرحلة الثالثة عام 1905م، لتكون مرحلة اكتمال بناء العلمانية الفرنسية وتقنينها في الدساتير؛ حيث أحدث فصلاً كاملاً بين الدولة والمؤسسات الدينية، ومنعت – على خلاف ألمانيا وأمريكا وبريطانيا مثلاً – أن تنفق الدولة أيّ أموال على المؤسسات الدينية، ونصّ القانون في فصله الثاني على أن “الجمهورية لا تعترف، ولا تموّل، ولا تدعم أي دين”. كما أن لها – أيضاً – جانباً معاصراً يثيره تزايد أعداد الفرنسيين من أصول مهاجرة وإسلامية، ونمط حياة كثير منهم المختلف عن نظرائهم في أوروبا وفرنسا.
ويبدو أن هذه العَلمانية المتشددة (= اللائكية) قد انتقلت إلى العالم الإسلامي (= تركيا الأتاتوركية، وتونس البورقيبية، على سبيل المثال لا الحصر)، فضلاً عن العديد من المؤسسات والجامعات ومراكز البحوث والدراسات والصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية، التي يكتب فيها، ويديرها، العدد الكبير من المثقفين والمفكرين المحسوبين على التيار الليبرالي والاشتراكي واليساري والماركسي، في العالمين العربي والإسلامي.
فأغلب سكان فرنسا كاثوليك، وجزء مهم منهم متدينون، لكن أغلبهم لائكييون، لأن اللائكية لا تلغي الدين أو التدين. لماذا تعدّ اللائكية خصوصية فرنسية، أي بعبارة أخرى: إخراج الدين من الساحة السياسة بطرق قانونية؟ هذا مرتبط في الحقيقة بخصوصية التاريخ الفرنسي!
فقد لعبت الكنيسة الكاثوليكية دوراً بارزاً ومؤثراً في المجتمع الفرنسي، وكانت فرنسا تسمى في العصور الوسطى بالابنة الكبرى للكنيسة، كما أن ملوك فرنسا كانوا دائماً في صدارة المدافعين عن المؤسسة البابوية، وذلك منذ عهد الإمبراطور (شارلمان) في القرن الثامن الميلادي.
فضلاً عن ذلك، فإن شدّة الاختلاف بين الجزأين الشمالي والجنوبي لفرنسا، على مستوى التقاليد الثقافية والاجتماعية؛ الشمال متأثر بالتعدد الديني لشمال أوروبا، ومنفتح، وخاضع أكثر لتقليد القانون العرفي (المحلي)، أمّا في الجنوب، فتأصّلت التقاليد الكاثوليكية منذ القدم، كما طغى القانون الروماني. أضف إلى ذلك، حروب الأديان الطاحنة بين البروتستانت والكاثوليك، التي امتدت لعشريات كاملة خلال القرن السادس عشر.
المهم أن مختلف هذه المعطيات جعلت الحسم الواضح مسألة حتمية، وهو ما تجلّى في الثورة الفرنسية التي فتحت الصراع على مصراعيه بين الجمهورية والكنيسة، هذه الأخيرة لم تعترف بها إلا مع نهاية القرن التاسع عشر، صراع بدأ بقانون وفاقي، أمضاه (نابليون بونابارت) سنة 1802م، وانتهى بقانون الفصل سنة 1905م.
اللائكية إذن حالة قانونية تهمّ الدولة، وهي مبنيّة على الصراع. أما العلمنة، فحركة داخلية عفوية تاريخية تهمّ المجتمع. لهذا السبب لا نجد في اللغة الفرنسية مرادفاً لكلمة علماني أو علمانية، لا وجود لذلك الشخص الذي يتبنّى العلمنة كموقف أيديولوجي أو سياسي. العلمنة إذن ليست موقفاً سياسياً، أو أيديولوجياً، على عكس اللائكية. كما أن اللائكية هي تتويج جذري ونهائي لمسار العلمنة الذي شهده الواقع الفرنسي.
لذا، فإن جذور (المشكلة الفرنسية) لها جانب تاريخي في مواجهة الكنيسة، فلقد ظلت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا محتفظة بسلكها الكهنوتي، وقوتها، في الحياة الفرنسية، حيث أضحت متماهية مع الهوية الوطنية الفرنسية، ولذلك كان من الصعب عليها أن تفسح مجالاً للحرية الدينية، وهذا ما يفسّر حدود العنف الذي استخدمته ضد مخالفيها.
وشهدت فرنسا أعنف الحروب الدينية في القارة الأوروبية، ففي سنة 1572م وقعت مجزرة (سانت بارتيلميوز) الشهيرة، التي قتل فيها نحو ثلاثين ألف بروتستانتي على أيدي الكاثوليك.
لقد تشكَّلت ردود أفعالٍ شرسةٍ ضدَّ الكنيسة، حمل لواءها الفلاسفة باسم آيديولوجية العقل، وهو ما أطاح بمركزية الدِّين المسيحي المحرَّف، في الفكر السِّياسي الفرنسي، وأنتج حدودًا غامضةً في التمييز بين (روح الدِّين) و(روح الحرية)، مما أبعد العلمانية الفرنسية عن التسامح الديني، الذي تميَّزت به العلمانية في دولٍ غربيةٍ أخرى. وهو ما دفع (محمد أركون) -أحد أساطين الحداثة المعاصرة- إلى وصفها بـ(العلمانوية)، بسبب غلوِّها وانحرافها التاريخي عن المعنى الأصلي لها، وهو: الالتزام بحياد الدولة تجاه الدِّين، إذْ إنَّ فصل الدِّين عن الدَّولة لا يعني فصل الدِّين عن المجتمع.
وفي الوقت الذي كانت فرنسا تتباهى بعصر الأنوار، والعلمانية المخلِّصة، والحداثة المشعَّة، كانت تخوض حروبًا دينيةً وصليبيةً في الوقت ذاته، وكان للبعد الدِّيني المسيحي دورٌ كبيرٌ في احتلالها للدول والشُّعوب، بعد اعتبار فرنسا نفسها حاميةً للكنيسة الكاثوليكية، وراعيةً لنشر المسيحية. فقد قال الملك (شارل العاشر)، في خطاب العرش، يوم 2 مارس/ آذار 1830م، وهو يستعدُّ لاحتلال الجزائر: “إنَّ العمل الذي سأقوم به هو ترضيةٌ للشَّرف الفرنسي، وسيكون بإعانة العليِّ القدير لفائدة المسيحية كلِّها”. ويقول كاتب الحاكم العامّ في الجزائر سنة 1832م: “إنَّ آخر أيام الإسلام قد دَنَت، وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إلهٌ غير المسيح، وإذا أمكننا أن نشكَّ أن هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا على أيِّ حال أن نشكَّ بأنها قد ضاعت من الإسلام وإلى الأبد”. ويقول الجنرال (بيجو): “إنَّ أرض الجزائر أرضٌ خصبةٌ لزرع المسيحية… أما العرب فلن يكونوا مِلْكًا لفرنسا، إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعًا”. كما أنَّ ذلك التعصُّب المسيحي، والخلفية الصَّليبية، كانت حاضرةً بقوة في ذلك الجيش من رجال الدِّين المسيحيين الذين رافقوا جيش الاحتلال الفرنسي، وقد خاطبهم الملك، فقال: “إنَّ مرادنا أن تقيموا صلواتٍ في كلِّ الكنائس، وتطلبوا من الله أن يحمي الراية، ويعطينا النَّصر”. لقد تعمَّدت فرنسا العلمانية أن تتدخّل في الدين الإسلامي، بطمس الهوية الإسلامية للجزائر، وتحويل المساجد والمدارس القرآنية والأوقاف الإسلامية إلى كنائس مسيحية وثكنات عسكرية وإسطبلات حيوانية. قال (لافيجري) عن هذه الإجراءات الصَّليبية: “علينا أن نجعل من أرض الجزائريين مَهْدًا لدولةٍ مسيحية… تلك هي رسالتنا”، وهو ما يفضح علمانيتها.
ورغم أنه كانت هناك تحذيرات فرنسية، منذ أكثر من قرن، من مسألة (استهداف الدين)، كما قال وزير التعليم ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق (جول فيري) بأن هناك “التعصب الديني، والتعصب غير المتدين، والثاني لا يقل سوءاً عن الأول”، ومع ذلك لم تستطع هذه التحذيرات والكتابات النقدية لبعض المثقفين والسياسيين الفرنسيين أن تعدّل من جوهر العلمانية الفرنسية.
ودون شك فإن النموذج الفرنسي، بتجلياته الحالية، هو نتاج خبرة تاريخية، وتراكم ثقافي، رسّخ فهماً خاصاً للعلمانية، وأن مراجعة بعض جوانبه لتأسيس علمانية متصالحة مع الدين، ولاستيعاب المتدينين وغير المتدينين، ليس سهلاً، ولن يُحل “بقرار حكومي”، إنما بصناعة توافقات جديدة تقرأ المشهد الحالي، الذي يقول إن المهاجرين من أصول أجنبية تحوّل كثير منهم من أجانب إلى مواطنين فرنسيين، وهذا لم يكن عليه الحال حين صدر قانون 1905م، وأن المطلوب ليس أن تتحول الدولة داعماً للأديان، إنما أن تعطي مساحات أكبر لأصحاب الديانات الأخرى – وهم في الحقيقة المسلمون – لكي يعبّروا عن ثقافتهم الدينية، ما دامت لا تتعارض مع الدستور والقانون، ولا توظف من قِبل أي مشاريع سياسية، وهو أمر بلا شك سيساعد في عملية دمجهم السياسي والاجتماعي، بعد أن شهدت تعثرات وتوترات كثيرة.
في حواره مع (الجزيرة نت)، انتقد المفكر الفرنسي الكبير (أوليفيه روا) مسار تطور العلمانية، وأثرها السلبي على الدين والممارسة الدينية المسيحية؛ حيث يرى مؤلف كتاب (الجهل المقدس) أن العلمانية لم تعنِ في البدء اختفاء الدين، بل تراجع تأثيره في الحياة اليومية والسياسات العامة، مثل التعليم والصحة.
إلا أن (أوليفيه روا) – الذي عمل مدير أبحاث مركز البحوث العلمية، ومدير دراسات المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسي- يرى أنَّ المبادئ المسيحية واجهت تحديات أكبر مع تغير القيم حول الأسرة خاصة، وذلك بعد الستينيات (= القرن العشرين)، أي مع الثورة الثقافية التي تبنت حقوق المثليين، وقضايا أخرى مثل الإجهاض؛ وهو ما أدى إلى تناقص تأثير الكنيسة، حتى في بلدان مثل (بولندا)، التي كانت تُعتبر معاقل كاثوليكية. كما أن العلمانية في فرنسا – حسب أوليفيه روا – لم تتوقف في القانون الفاصل بين الكنيسة عن الدولة، بل تطوّرت لتشملَ ممارسات دينية أخرى، خصوصاً بظهور الإسلام في المجال العام الفرنسي، ليتحول النقاش الفرنسي ليس فقط نحو الإسلاموفوبيا، بل حول معاداة الدين بشكل عام، وهو ما يشير إلى تعقيد الوضع الفرنسي، مقارنة بدول أوروبية أخرى، حيث الدين لا يزال جزءاً من الحياة العامة.
هذه المعطيات جعلت من حقبة الرئيس (إيمانويل ماكرون) – حسب المفكر أوليفيه روا – مليئة بالصدامات مع الإسلام والمسلمين، لأنها تجسدُ أعلى مراتب الاستهداف للتعابير الدينية في الأماكن العامة، وهو ما يؤدّي إلى تفاقم استعداء المسلمين في فرنسا، فإلى الحوار والتساؤل: هل أوروبا ما زالت مسيحية؟ وهل لا تزال القيم المسيحية المرتبطة بالأسرة والفضاءات الخاصة، قائمة داخل المجتمعات الأوروبية في الحقبة العلمانية؟
من الناحية الثقافية، ومن الناحية التاريخية، ومن زاوية النظر المؤسساتية كذلك، كانت الكنيسة الكاثوليكية – على سبيل المثال – في العصور الوسطى، المؤسسة الأوروبية، بحكم التعريف، وكان الجميع أعضاء في الكنيسة الكاثوليكية؛ من أيرلندا إلى إيطاليا وألمانيا. لذلك، لا يمكننا نفي ولا تجاهل هذا التراث، إلا أن ثمة شيئاً حصل، كما تعلمون، في حوالي القرن الثامن عشر في فرنسا، والذي امتد إلى سائر أوروبا، إلى حدود القرن العشرين؛ وهو متمثل في “العلمانية ” (secularism).
العلمانية لا تعني أن الناس سيصبحون ملاحدة، أو ضد الدين، يعني فقط أن الدين ليس مهماً جداً لهم؛ يعني أن الناس يتوقّفون عن الذهاب بانتظام للكنيسة، يتوقّفون عن توريث الكنيسة لثرواتهم بعد وفاتهم، وهو ما بدأ يتناقصُ شيئاً فشيئاً في إعطاء أموالهم ومنازلهم للكنيسة. وأن (الدولة) أنشأت أنظمة تعليم علمانية، وأنظمة صحة علمانية؛ لذلك لم تعد الكنيسة مهمة جداً لحياتهم اليومية. وأن الكنيسة توقفت عن احتكار الجامعات، والمستشفيات، وغيرها من المؤسسات، هذا الانتقال يجعلُ من علاقة الدولة بالكنيسة ظاهرة ثقافية واجتماعية، امتدت على مدار قرنين أو ثلاثة قرون، تتسم بغير التكافؤ.
ربما تكون (فرنسا) الدولة الأوروبية الأكثر علمنة، وربما تكون (بولندا) الدولة الأوروبية الأكثر كاثوليكية، وكانت (أيرلندا) الأكثر كاثوليكية جداً قبل 50 عاماً، وفجأة تمَّ علمنتها خلال جيلٍ واحد.
لا ريب في أن الأحزاب السياسية التي حكمت فرنسا بين عامي 1789م ـ 1914م، كانت معادية لرجال الدين، وقد أزاحت الكاثوليكيين عن المراكز الرئيسية للسلطة، وفرضت قانون العلمنة فرضاً على الشعب الفرنسي، دون أي تفاوض أو استشارة سابقة مع الكنيسة الكاثوليكية، التي تشكل أغلبية سكان البلاد. والواقع أن العلمانيين كانوا يريدون القضاء على الأصولية المسيحية البابوية في البلاد؛ وقد نجحوا في مشروعهم إلى حد كبير، بدليل أن القانون المدني (أو قانون نابليون) حل محل القانون الكنسي أو الشريعة المسيحية. ويقال إن نابليون كان يفتخر بذلك في أواخر أيامه، وهو منفي في جزيرة (سانت هيلانة) الشهيرة، ويقول: “هذا ما سيتبقى مني على مدار التاريخ”.
بل وحتى المحافظون أصبحوا يعترفون بإيجابيات قانون العلمنة، أو فصل الكنيسة عن الدولة، رغم كل معارضتهم السابقة له، واتهامهم للعلمانيين بالكفر ومعاداة الدين. والحال أن القانون المدني ترسّخ الآن في فرنسا، ولم يعد أحد يفكر في التراجع عنه. ولكن هذا لا يعني أن المناقشة انتهت، أو أغلقت كلياً. فبعد العلمانية الحامية التي تشكّلت في القرن التاسع عشر، كردّ فعل على الأصولية الحامية، أصبحوا يفكرون الآن ببلورة علمانية جديدة متصالحة مع الدين، لا معادية له. فالأصولية المسيحية أصبحت ضعيفة جداً في فرنسا، إن لم تكن معدومة، وبالتالي فلا داعي لمحاربة طواحين الهواء. والإيمان إذا كان مستنيراً، فإنه لا يشكل خطراً على العلمانية أو الدولة المدنية. بالعكس تماماً، فإنه يخلع عليها قيماً أخلاقية وروحانية لا تقدّر بثمن.
ولكن يلاحظ أن الإيمان كقيمة عليا بحد ذاتها، لم يعد له أي وجود بالنسبة للشبيبة الفرنسية. ويلاحظ أيضاً أن مسؤولي البرامج التلفزيونية لا يدعون المثقفين الكاثوليكيين إلى المشاركة في البرامج، وإذا ما دعوهم فإنهم يهاجمونهم، أو يضحكون عليهم ويتخذونهم ككبش فداء. وعندما تعلن إحدى القنوات أنها ستتحدث عن الدين، فإن ذلك يعني أنها تريد مهاجمة الدين واللاهوت المسيحي بتهمة الرجعية. وهي لا تسمح للمثقفين الكاثوليكيين بالرد على هذا الهجوم! وهكذا انتقلنا من النقيض إلى النقيض: من تطرف إلى تطرف آخر، من تطرف أصولي كاثوليكي، إلى تطرف علماني أو إلحادي.
وهناك برامج ساخرة كثيرة لا تتردد عن الاستهزاء بالبابا والعقائد المسيحية على هواها، بل وتنكر حتى وجود المسيح تاريخياً، وتقول إنه مجرد أسطورة لا حقيقة واقعة. ولكنها لا تتجرأ على أن تفعل الشيء نفسه مع الأديان الأخرى؛ كالإسلام واليهودية، حتى ظهرت مجلة (شارلي إيبدو) مؤخراً، ودفعت الثمن غالياً.. وعموما أصبح الجهل بالثقافة المسيحية عاماً شاملاً في فرنسا، فطالب الثانوية يمكن أن ينال البكالوريا من دون أن يعرف أي شيء عن الإنجيل، أو عن السيد المسيح، أو عن دين آبائه وأجداده. ولكن الاستهزاء بالإسلام أصبح موضة رائجة في السنوات الأخيرة، وتصاعدت موجة الإسلاموفوبيا بشكل مقلق، ويخشى أن تزداد أضعافاً مضاعفة في الأيام المقبلة، ليس فقط في فرنسا، وإنما في كل أنحاء أوروبا. وهنا أقول لهم (= الكاتب هاشم صالح)، مع إدانتي الكاملة للمجزرة التي حصلت مؤخراً في عاصمة النور: على مهلكم يا سادة العالم، يا متطورون، يا حضاريون! خذونا بحلمكم! فالمسلمون لا يستطيعون أن يستوعبوا بين عشية وضحاها طفرات فلسفية وعلمية وسياسية هائلة، كان قد استغرق استيعابها من المسيحيين الأوروبيين مدة مائتي سنة على الأقل؛ أقصد مائتي سنة من الصراعات الفكرية والمواجهات السياسية والتفاعلات الجدلية بين المفكرين والكنيسة!
تداعيات اللائكية الفرنسية على الواقع العربي والإسلامي:
دخلت العلمانية مصر مع حملة القائد العسكري الفرنسي (نابليون بونابارت)، سنة1798م. وقد أشار إليها المؤرخ المصري (الجبرتي)، في تاريخه (الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر وأحداثها)، بعبارات تدور حول معنى العلمانية، وإن لم يذكر اللفظة صراحة. أمّا أوّل من استخدم هذا المصطلح (العلمانية)، فهو مسيحي قبطي مصري يدعى (إلياس بقطر) (1784 – 1821م)، عيّن في كرسي اللغة العامية العربية في مدرسة اللغات للشباب في (باريس)، أدرجه في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م. وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان مفتوناً بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.
لذلك، فالجانب الذي يُساهم في تشكيل التصوّرات العربية حول العلمانية، هو الممارسات (اللائكية) المتشدّدة التي تقوم عليها الثقافة السياسية في فرنسا، والتي وجدت رديفها مؤخّراً في عدد من الدول الأوروبية، في ذورة الحرب على ما يُسمّى الإرهاب. وكانت الجالية المسلمة العريضة في فرنسا الضحية الأولى للعلمانية المتشددة، التي توجّهت نحو حظر الحجاب، والتضييق على المؤسسات الإسلامية، واستغلال حالة الطوارئ للجوء إلى اعتقالات تعسفية ضد رموز وأفراد الجالية المسلمة. وقد تداخلت دوافع علمانية، وأخرى لها علاقة بالإسلاموفوبيا، والنظرة الدُّونية تجاه الشرق (الإسلام)، في تأجيج هذه الممارسات. وبطبيعة الحال غذّت هذه الحوادث في العقل العربي، تصوّراته عن عداء العلمانية لأية مظاهر أو ممارسات دينية، ووصل الحال إلى اعتبار بعض البسطاء ورجال الدين أن العلمانية رديفٌ للإلحاد، أو مدخلٌ نحو الكُفر بالإسلام.
وقد ساهم في تعزيز هذه التصوّرات فساد الكثير من النخب العلمانية العربية، وجهلها بالأدبيات السياسية العلمانية، وعلاقتها المشبوهة مع أنظمة الاستبداد العربية في مواجهة الشعب وحريته، ومن ضمنها الحرية الدينية.
يحتاج أيُّ نقاش عربي إلى تفكيك المسألة العلمانية من زاويتين: الأولى، هي المقاربة العلمانية للحريات الدينية؛ حيث انصبّ جُلّ الالتباس والاهتمام العربي. والثانية، هي علاقة العلمانية بالتشريع السياسي في دول ذات أغلبية مسلمة، تؤمن أن الإسلام مصدر أساسي للتشريع. والحقيقة أن الكثير من الأدبيات في العالم العربي عجزت عن تفكيك زاوية النقاش الثانية، حين انشغلت بالأولى، بما فيها الاحزاب الإسلامية، التي لم تقدّم أجوبة كاملة وواقعية في هذا السياق، على الرغم من وصول بعضها إلى الحكم.
وحتى يُبنَى أي نقاش على أسس سليمة، فلا بدّ من التفريق بين مدرستين أساسيتين في العلمانية: الأولى هي المدرسة الحازمة أو (Aseertive secularism)، وهي ذاتها التي سمّاها عبد الوهاب المسيري بـ(العلمانية الشاملة)، وتحدث عنها باستفاضة كل من أحمد كورو (تركيا)، وطلال أسد (الولايات المتحدة)، وتتسم بعلاقة الدولة العدائية بالمؤسسة الدينية؛ بما يشمل محاولات السيطرة عليها، وتجييرها لخدمة السياسة، إلى جانب حصر الممارسة الدينية في الفضاء الخاص (شعائر فردية)، ومنع المؤسسة الدينية من تطوير مقاربات مستقلة حول الشأن الاجتماعي والسياسي. وأفضل الأمثلة عليها هي العلمانية الفرنسية (اللائكية)، والتي كانت أبرز ثمار الثورة الفرنسية، التي قامت ضد ثنائية الملكية والكنيسة كرمزين للاستبداد. وقد تأثرت الجمهورية التركية الحديثة، في مراحلها الأولى، بعلمانية فرنسا، فضيّقت الحريات الدينية، وربطت بين الإسلام والتراجع السياسي والحضاري. ولعلّ التشابه في السياق التاريخي لنشوء العلمانية في كل من فرنسا وتركيا، بُعَيد سقوط الخلافة عام 1924م، يفسّر المقاربة العدائية للدّين في كلا النظامين.
وعلى العكس من هذا النموذج، طوّرت الولايات المتحدة شكلاً مغايراً للعلمانية أكثر تصالحاً مع الدّين، وأكثر قبولاً من قبل الكنيسة الأمريكية ذاتها، التي طالبت بالعلمانية، سواء أكانت كاثوليكية أو إنجيلية. وتتلخص العلمانية الأمريكية في حيادية الدولة تجاه الأديان، في مقابل استقلال الكنيسة عن الدولة. ويمنح هذا الاستقلال حرية اعتقاد، وتديناً أوسع، بعيداً عن محاباة الدولة لاتجاه مسيحي دون آخر. ولا يعني ذلك بالضرورة أن الكنيسة ممنوعة من تطوير مقاربات اجتماعية أو سياسية، بل هي في صلب صناعة السياسات والتشريعات ضمن القوانين المحلية، وحاضرة أيضاً في انتخابات الكونغرس والرئاسة.
وعلى الرغم من أن النموذج الأمريكي فريد، في سياق علاقة الدولة بالكنيسة، فإن دولاً غربية أخرى تتبع ذات المدرسة في شكلها العام، والتي سمّاها أحمد كورو بالعلمانية السلبيةPassive seculrarism ، والمسيري بالعلمانية الجزئية؛ حيث لا تسعى للفصل الكامل، إنما الجزئي، بين الدين والسياسة، لصالح إعطاء المؤسسة الدينية استقلالية ونزاهة أكبر.
وفي التقليد الأنكلوسكسوني، لا نجد مصطلح (لائكية)، بل – على عكس المسار الفرنسي – نجد كلمة علمنة (secularisation)، وكلمة علمانية (secularism)، وكذلك كلمة علماني (secularist)، وذلك لأن المسار التاريخي الإنكليزي لم يكن مساراً صِدامياً، يفرض القطع الجذري مع الدين، كما كان الحال في فرنسا.
فلم تشهد بريطانيا ذلك الجدل الفرنسي بين اللائكيين؛ خاصة من المفكرين، ومن رجال التعليم، وبين رجال الدين؛ بل كانت العلمنة كمسار تطوري هي العامل الحاسم؛ خاصة وقد تمثلت في موقف سياسي، ونظرة فكرية للواقع. نفس هذا التطور شهدته (اليابان)، حيث تعد العلمانية موقفاً سياسياً، وفكرياً.
كان ذلك في الغرب، أما في العالم الإسلامي، فلعل من الأمثلة الرائدة للتعايش، ما بين المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة والعلمانية، هو النموذج الذي قدّمته كل من ماليزيا، وتركيا (العدالة والتنمية)، في احتضان التديّن الشعبي، واحترام توجهات الجمهور المسلم عند التشريع، رغم علمانية الدستور ومؤسسات الدولة السيادية؛ ففي تركيا، التي ورثت علمانية متشددة أقسى من اللائكية الفرنسية في سعيها لتجريف هوية وتديّن المجتمع، استطاع حزب العدالة والتنمية الحاكم إدخال تحولات جوهرية على علمانية الدولة.
وتعتقد الباحثة الفلسطينية أماني السنوار أن سبب هذا النجاح (النموذج التركي) يعود لوعي السياسيين الأتراك بجوهر العلمانية بعيداً عن فخ التنميط والأحكام المسبقة، إلى جانب عدم معاداتهم للعلمانية كمبدأ سياسي، بل سعيهم للتحول نحو النموذج الأمريكي للعلمانية الأكثر تصالحاً مع الدين. وهذا ما صرّح به الرئيس أردوغان في زيارة له إلى واشنطن عام 2007م، حين قال: “نحن لسنا ضد العلمانية. لكننا نريد علمانية شبيهة بما لديكم هنا في أمريكا. استخدمت العلمانية كأداة لقمع الأديان في تركيا. في البلدان العلمانية، يتمتع الناس بحرية كونهم متدينين أو غير متدينين”. وهذا يقتضي حياد الدولة تجاه العقائد، لا معاداتها.
وإذا كان الاستبداد السياسي هو العلامة الأبرز في المنطقة العربية، فإن تواطؤ (الإسلام الرسمي)، المدعوم والمتحكم به من قبل الدولة، على توفير المبررات الدينية و(الأخلاقية) لتدعيم الاستبداد، يزيد من تعميق أزمة الديمقراطية والحريات في المنطقة، ويُسيء بالضرورة إلى نزاهة الفكرة الدينية، ما يجعل الحاجة ملحّة – أكثر من أي وقت مضى – لتحرير الالتباس في علاقة الدين والدولة في العقل العربي، إلى جانب دراسة فرص كون العلمانية – بمعناها الماثل في حيادية الدولة، واستقلال المؤسسة الدينية – حلاً ناجعاً لثنائية الاستبداد الديني والسياسي في العالم العربي.
وعلى الرغم من أن النموذج التركي ما زال في طور البناء، فإنه نموذج يستحق الدراسة في شرق أوسط يغرق في علاقة مضطربة بين الدّين والدولة، لطالما كان الدين فيها هو الضحية؛ إمّا عبر القمع والتجريف، أو عبر الاستغلال والتطويع لخدمة القبلية السياسية والاستبداد. ففي دولة مثل (مصر) تحتضن الأزهر الشريف كمنارة علمية إسلامية عمرها يزيد عن الألف عام، جرّد الاستبداد السياسي، منذ الخمسينات من القرن الماضي، مؤسسة الأزهر من هيبتها الدينية واستقلاليتها؛ حيث أصبح رئيس الأزهر يعيّن من قبل رئيس الجمهورية، عوضاً عن انتخابه من قبل هيئة علمية مستقلة، وتحوّل الأزهر -عبر فتاواه ومواقفه السياسية – إلى مؤسسة تضفي الشرعية الدينية على نظام سياسي فاقد لكل أسس الشرعية (أماني السنوار).
افتتاح الأولمبياد المثير للجدل:
في يوم الجمعة 26/7/2024م، تم افتُتح (أولمبياد باريس 2024) رسمياً، بعرض مذهل غير مسبوق على (نهر السين)، شارك فيه 6800 رياضياً، من 205 دولة، أمام معالم تاريخية في العاصمة الفرنسية، رغم هطول أمطار عكّرت الأجواء، وتعرّض شبكة القطارات لعملية تخريب. وسلط حفل الافتتاح الضوء على مجتمع المثليين، من خلال قبلة رجلين، ورجال يرتدون ملابس نسائية، من ضمن 12 لوحة، نفذها ألفا فنان (راقص، وموسيقي، وكوميدي، وأكروباتي) على ضفاف النهر، ومعالم تاريخية؛ بينها (كاتدرائية نوتردام)، التي أتى حريق ضخم على أجزاء واسعة منها عام 2019م، وكان لورشة ترميمها حضور في إحدى فقرات الحفل.
وفي السياق نفسه، انتقد مثقفون، ورجال دين، وسياسيون، منظمي حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية، التي استضافتها العاصمة الفرنسية باريس، يوم 26/8/2024م، على خلفية إقامة عرض (دراغ كوين) (رجل يرتدي ملابس نسائية، ويضع مكياجاً)، يتضمن تجسيداً ومحاكاة ساخرة للوحة (العشاء الأخير)، التي يشير البعض إلى أنها تُصوّر النبي عيسى – عليه السلام – وتلامذته.
وتعرضت بعض العروض خلال الحفل إلى انتقادات حادة، حيث اعتبر البعض أنها كانت تتضمن ترويجاً للشذوذ الجنسي، وخاصة العرض التمثيلي للوحة (العشاء الأخير)، للفنان الإيطالي (ليونار دافينشي)، عبر شخصيات متحولين جنسياً (دراغ كوين)، وظهور رجل عار مكان من يُوصف بـ(السيد المسيح)، في اللوحة، مما اعتبره النقاد إساءة متعمدة للمسيحية والأديان. وقال نقاد: إنه يمثل (ديونيسوس)، وهو إله الخمر والاحتفالات الماجنة في الأساطير الإغريقية القديمة، الذي عرف أيضاً بمواكبه واحتفالاته وطقوسه الوثنية المتحررة من القيم الأخلاقية.
أولاً: شجب وتنديد الكنيسة الكاثوليكية، والشخصيات الفرنسية:
وفي هذا الصدد، نُشرت السبت 27/6/2024م آراء الأساقفة الفرنسيين بشأن حفل الافتتاح، عبر بيان على حساب الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، في منصة (إكس). وجاء في البيان: “للأسف، احتوى هذا الحفل على مشاهد تسخر من المسيحية، ونحن نقابل هذا الوضع بحزن عميق”. ووجه البيان الشكر لأبناء الديانات الأخرى على إعرابهم عن تضامنهم مع المسيحيين في مواجهة هذا الوضع. وأضاف: “أفكارنا هذا الصباح مع المسيحيين في جميع القارات، الذين تأذوا بسبب المبالغة والاستفزاز في بعض المشاهد”،
وشدّد على ضرورة إدراك أن الألعاب الأولمبية تتجاوز التحيزات الأيديولوجية لدى بعض الفنانين، وأكّد البيان أن “الرياضة هي نشاط يترك أثراً عميقاً في قلوب الرياضيين والجماهير، وأنه في إطار احترام المعتقدات الدينية، هناك حاجة ملحة للجميع للاهتمام بالقيم التي يتم تبادلها في الرياضة، وفي دورة الألعاب الأولمبية”.
بدورها، قالت عضو البرلمان الأوروبي الفرنسية (ماريون ماريشال) – وهي من أقصى اليمين -: “إلى جميع المسيحيين في العالم، الذين يشعرون بالإهانة من هذه المحاكاة الساخرة للعشاء الأخير، خلال حفل افتتاح باريس 2024م، اعلموا أن فرنسا ليست هي التي تتحدث، بل أقلية يسارية مستعدة لأي استفزاز”.
وأوضحت (ماريشال)، وهي ابنة شقيقة القيادية اليمينية المتطرفة (مارين لوبان)، أن هذه الحادثة لا تمثلها، وكتبت في منشورها عبر منصة (إكس) وسماً يقول: “ليس باسمي”.
أما النائبة عن حزب التجمع الوطني، (لورلافاليت)، فقالت عبر حسابها بمنصة (إكس)، مخاطبة الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون): “السيد رئيس الجمهورية، نحن جميعاً سعداء للغاية بدورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024م، ولا أريد التحدث في السياسة هذا المساء. لكن هل حقاً كان هذا ضرورياً؟”، في إشارة إلى العرض. وأعرب رئيس حزب (فرنسا الأبية) (جان لوك ميلينشون)، عن استيائه من العرض المستهزئ بالمسيح.
وفي منشور عبر حسابه على منصة (إكس)، أعلن المحامي الفرنسي (فابريس دي فيزيو)، أنه سيتقدم بشكوى رسمية في 29 يوليو/ تموز الجاري ضد تجسيد لوحة (العشاء الأخير)، التي تتضمن – في رأي البعض- تصويراً للنبي عيسى وتلاميذه، من خلال عرض (دراغ كوين) خلال افتتاح دورة الألعاب الأولمبية.
ثانياً: شجب وتنديد الكنيسة الكاثوليكية، والشخصيات الأمريكية:
الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة جزء من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية حول العالم، وهي كنيسة مسيحية تابعة لبابا الفاتيكان. وتعيش في الولايات المتحدة ثالث أضخم مجموعة من الكاثوليك في العالم، بعد البرازيل والمكسيك. والكاثوليكية هي ديانة معظم الأمريكيين، الذين يعود أصلهم إلى دول أمريكا اللاتينية وإيرلندا وإيطاليا وبولندا، حيث إن عددهم يصل إلى 77.7 مليون مواطن أمريكي كاثوليكي. وقدمت الكنيسة الكاثوليكية إلى الولايات المتحدة خلال الاستعمار الأوروبي للأمريكيتين، وذلك من إسبانيا والمملكة المتحدة، خلال القرن التاسع عشر، حيث قدمت مع (كريستوفر كولومبوس) – خلال رحلته الثانية – كنائس، وأقامت في عدة مدن وولايات أمريكية.
وعلى الرغم من أن الكاثوليك يشكلون ربع سكان الولايات المتحدة، إلا أنه خلال تاريخ الولايات المتحدة ترأس كاثوليكي واحد، وهو (جون كنيدي)، رئاسة الولايات المتحدة، قبل أن يصبح (جو بايدن) الكاثوليكي الثاني الذي يرأس الولايات المتحدة.
لذلك تعرض الأولمبياد المثير للجدل (= الشيطاني، على حد وصف البعض) إلى حملة تنديد وشجب واسعة من قبل الكاثوليك الأمريكان؛ من أساقفة، وسيناتورات، وشخصيات عامة. فدعا أحد أشهر أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة، الأسقف (روبرت بارون)، من (مينيسوتا)، الكاثوليك إلى “إسماع أصواتهم” ردًا على ما أسماه “السخرية الفاضحة من العشاء الأخير”. وفي منشور على موقع إكس، قال الأسقف (بارون): إن الفعل التجديفي كان رمزًا لمجتمع ما بعد الحداثة العلماني العميق، الذي يحدّد المسيحية كعدو له.
وفي الوقت نفسه، وفي تعويض عن التجديف، دعا الأسقف (دونالد هاينغ) – من (ماديسون)، بولاية (ويسكونسن) – على الفور، جميع الكاثوليك إلى “الصيام، والصلاة، وتجديد تفانينا للقربان المقدس، والقلب المقدس، والسيدة العذراء مريم”.
وأضاف الأسقف الأمريكي (هاينغ)، في منشور على منصة (إكس)، حيث شكر الرب على القربان المقدس والعشاء الأخير، و”حبّه لنا”، “ليتم عبادة يسوع وحبّه في كل خيمة اجتماع، في جميع أنحاء العالم”. كما سارع الأسقف (دانييل فلوريس) – من براونزفيل بولاية تكساس – إلى مشاركة ردّ فعله، حيث صرح قائلاً: “مفرداتي ليست متنوعة بما يكفي لإيجاد كلمة للشعور في جوف معدتي”، وأكّد أن أتباع الإيمان المسيحي “يستحقون المزيد من الاحترام”.
كما أصدر الأسقف (أندرو كوزينز)، رئيس لجنة الأساقفة الأمريكيين للتبشير والتعليم المسيحي، بياناً داعيًا الكاثوليك إلى الرد على حادثة باريس بالصلاة والصوم. وفي إشارة إلى المؤتمر الإفخارستيّ الوطني الأخير، كتب الأسقف (كوزنيز): “لقد اختبر يسوع آلامه من جديد ليلة الجمعة في باريس، عندما تم تشويه صورة عشائه الأخير علنًا”.
كما أعرب رئيس أساقفة سانتياغو دي تشيلي، (فرناندو تشومالي)، عن خيبة أمله من “المحاكاة الساخرة البشعة لأقدس شيء لدينا نحن الكاثوليك، القربان المقدس”، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الإسبانية.
ومن جانب آخر، قال تقرير لـ(سي إن إن): كما تردد صدى مشاعر اليهود المناهضين لهذه الحملة ضد السيد المسيح والعشاء الرباني، وقال الدكتور (إيلي ديفيد): “حتى كيهودي، أشعر بالغضب من هذه الإهانة الفاضحة ليسوع المسيحية”. هكذا، ووصف مراسم الافتتاح بأنها تعكس أوروبا “التي تحتضر ثقافياً”.
وبخصوص الشخصيات الأمريكية، فقد وصف أغنى رجل في العالم مادياً، (إيلون ماسك)، هذا العرض بأنه “غير محترم للغاية للمسيحيين”. ومن جانبه، رد السيناتور الأميركي (ماركو روبيو)، وهو كاثوليكي، على ما أسماه “العرض الغريب” الأولمبي، باقتباس من (سفر يهوذا/ 1:18): “في آخر الزمان سيكون هناك مستهزئون يعيشون وفقاً لرغباتهم الملحدة”.
وأدانت شخصيات أميركية بارزة، ومعلقون سياسيون، هذا الفعل، زاعمين أنه لا يحترم المسيحية، ويرسل رسالة استبعاد إلى 2.4 مليار مسيحي في جميع أنحاء العالم. وقال (توم فيتون)، رئيس منظمة ( Judicial Watch) غير الحكومية، ومقرها الولايات المتحدة: “إن اليسار العابر للحدود الوطنية يحتقر الحضارة الغربية”.
كما أعلنت شركة اتصالات وتكنولوجيا أميركية، أنها قررت وقف تعاقداتها الإعلانية مع الأولمبياد في باريس، وذلك عقب ظهور لوحة استعراضية وُصفت بأنها (تسخر) من الديانة المسيحية. وقالت شركة (C Spire)، في تدوينة لها على حسابها الرسمي بمنصة (إكس): “لقد صدمنا بسبب السخرية من (لوحة) العشاء الأخير، خلال مراسم افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس”. وأعلنت الشركة الأميركية أنها قررت وقف تعاقداتها الإعلانية مع الألعاب الأولمبية، حسب ذات التدوينة.
ثالثاً: شجب وتنديد الكنائس الكاثوليكية في فلسطين والعراق:
قال مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة (تجمع لرؤساء الكنائس الكاثوليكية في القدس)، عبر بيان له: “بكثير من المحبة الممزوجة بالاستغراب والاستهجان، شاهدنا ما جرى خلال حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في فرنسا، من الاستهزاء بما هو مقدس لدى مليارات الناس حول العالم”.
وتجدر الإشارة إلى أن الكنائس العراقية المرتبطة بالفاتيكان؛ من كلدان وسريان كاثوليك، أدانوا الإثنين 29/6/2024م حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في (باريس)، بعد موجة الجدل حول عرضٍ رأى البعض أنه مستوحى من لوحة (العشاء الأخير)، للفنان (ليوناردو دافنشي). واعتبرت الكنيسة الكلدانية في العراق، في بيان رسمي صدر يوم الأحد 28/6/2024م، أن “ما حدث في حفل افتتاح أولمبياد باريس أمر مخجل، واستهزاء بالديانة المسيحية، ويجرح إيمان ومشاعر أكثر من مليارين ونصف المليار مسيحي حول العالم”. وأضافت الكنيسة في بيانها: إن “مبادئ الألعاب الأولمبية تهدف إلى جمع الشعوب على المحبة والاحترام والتعاون، وليس إلى التجريح والفرقة”. وأشارت إلى أن البطريرك الكاردينال (لويس روفائيل ساكو)، رئيس طائفة الكلدان، يقف إلى جانب الكنيسة في (فرنسا)، ومجلس أساقفتها، في استنكارهم للمشاهد التي انطوت على سخرية مبطنة، واستهزاء بالديانة المسيحية”.
وبدوره، دعا رئيس أساقفة أبرشية الموصل، وتوابعها، للسريان الكاثوليك: (المطران مار بنيدكتوس يونان حنو)، رعيّته إلى الصيام الإثنين احتجاجاً، وقال في حديث لوكالة (فرانس برس): “ليس لدينا أي شيء نفعله غير الصوم والصلاة، حتى يغفر الله هذه الإساءة الكبيرة، التي ما هي إساءة للدين فقط، لكن للإنسانية”.
رابعاً: شجب وتنديد الكنيسة والشخصيات الأرثوذكسية:
أما التنديد من جانب الدول الأرثوذكسية (روسيا، والمجر، وسلوفاكيا)، فقد أكّد المتحدث باسم (الكرملين)، (دميتري بيسكوف): أن بعض عروض حفل افتتاح الألعاب الأولمبية 2024 في باريس، كانت مثيرة للاشمئزاز. ووصف (مدفيديف) حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس بـ(عرض المسوخ المعيب). وأضاف: “فوجئنا بصدور هذا التصرف المسيء بحق الرموز الدينية من فرنسا بلد العلمانية والإنسانية، بلد يحترم كل القوميات، وكل الديانات”.
ومن جهته، تحدث رئيس الوزراء المجري (فيكتور أوربان) أمام جمهور مجري، في مؤتمر بـ(رومانيا)، يوم السبت 27/6/2024، عن مستقبل أوروبا والمسيحية (الفرنسية)، حيث شنّ هجوماً لاذعاً جديداً انتقد فيه “ضعف الغرب، وتفككه”، وهو ما تجلّى برأيه في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس. ورأى الزعيم المحافظ المتشدد أن الحفل الذي أقيم الجمعة على نهر السين، وهدف إلى إظهار التنوع في فرنسا، كان تجسيداً لـ(الخواء) الأخلاقي في الغرب. وأضاف (أوربان): “إنهم يتخلّون تدريجاً عن الروابط الروحية والفكرية مع الخالق والوطن والأسرة، مما أدى إلى تدهور القيم الأخلاقية العامة في المجتمع، كما رأيتم إذ شاهدتم حفل افتتاح الأولمبياد …”.
وكان (فيكتور أوربان) يتحدث في جامعة في (بايلي توسناد)، في مقاطعة (ترانسلفانيا) الرومانية، حيث تقيم جالية مجرية كبيرة. وأعلن (أوربان) أن “القيم الغربية، التي طالما اعتبرت عالمية، أصبحت غير مقبولة ومرفوضة بشكل متزايد من قبل العديد من دول العالم”، مثل الصين والهند وتركيا والدول العربية. بينما رفض نائب رئيس وزراء سلوفاكيا الحضور في الحفل، معتبراً إياه “رمزاً للانحطاط”.
ونقلت مصادر أخرى إعلان أساقفة ومطران الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالولايات المتحدة وكندا، إدانتهم لحفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس، بسبب “تضمنه سخرية من العقيدة المسيحية، وإهانة للرموز المقدسة”.
أما رئيس أساقفة مالطا (تشارلز شيكلونا)، فقد قال على منصة (إكس)، وكان قد بعث برسائل إلى السفير الفرنسي في مالطا، معربًا عن “انزعاجه وخيبة أمله الكبيرة من الإهانة التي تعرضنا نحن المسيحيين، خلال حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024م، عندما قامت مجموعة من الفنانين الاستعراضيين بالسخرية من العشاء الأخير للسيد المسيح”. وقال الأسقف، وهو أيضًا مسؤول في الفاتيكان، إنه يشجع الآخرين على مراسلة السفير.
خامساً: شجب وتنديد المؤسسات والشخصيات الإسلامية:
كما أدان الأزهر الشريف بشدة المشاهد المسيئة، التي تصوِّر المسيح – عليه السلام – بطريقة تتنافى مع الاحترام الواجب لمقام النبوة والقدسية، معرباً عن قلقه من استغلال المناسبات العالمية لتطبيع الإساءة للأديان، محذرًا من الترويج للأفكار والممارسات التي تتناقض مع القيم الإنسانية والأخلاقية، مثل الشذوذ، والتحول الجنسي.
من جهته، أعرب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في بيان له، عن استيائه الشديد من حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024، مؤكداً أنه “شهد إهانة صارخة للأديان، وإساءة بالغة لأنبياء الله عليهم السلام، وبخاصة سيدنا المسيح، وحوارييه”، معلناً إطلاق حملة للدفاع عنه.
وهاجمت وزيرة الدولة للتعاون الدولي في دولة قطر (لولوة الخاطر) العرض، معربة عن تضامنها مع المسيحيين.
اعتذارات منظمي الأولمبياد:
واعتذر منظمو دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس، للكاثوليك، ولطوائف مسيحية أخرى شعرت بالغضب بسبب لوحة فنية مبتذلة في حفل افتتاح الأولمبياد، تحاكي لوحة (ليوناردو دافنشي) الشهيرة (العشاء الأخير)، وتضمنت الفعالية إعادة تمثيل المشهد الشهير للمسيح، والحواريين، وهم يتشاركون وجبة أخيرة قبل الصلب، وفق العقيدة المسيحية، ولكن في وجود عارضة أزياء متحولة جنسياً، ومغنية عارية.
لكن المدير الفني لحفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية، الموسيقي الفرنسي المشهور (توماس جولي)، نفى الأحد 28/7/2024م أن يكون العرض “مستوحى من لوحة العشاء الأخير”. وفي حديثه للصحفيين، دافع المدير الفني للحفل عن العرض، وقال “في فرنسا الناس أحرار في حب ما يشاؤون، أحرار في حب من يريدون، أحرار في الإيمان أو عدم الإيمان”.
فيما قالت (آن ديكا)، المتحدثة باسم ألعاب باريس 2024م، في مؤتمر صحافي: “بالتأكيد لم تكن هناك نية على الإطلاق لإظهار عدم الاحترام لأي طائفة دينية. (حفل الافتتاح) حول الاحتفاء بقيم التسامح”. وأضافت: “نعتقد أن هذه الرغبة تحقّقت، وإذا شعر الناس بأي إساءة، فنحن نأسف لذلك حقاً”.
العلمانية الفرنسية والكيل بمكيالين تجاه الإسلام والمسلمين:
ففي حين تعتز فرنسا بتراثها الكاثوليكي، فإنها تُعرف كذلك بتقليد طويل من العلمانية المتشددة، ومعاداة رجال الدين. والتجديف ضد الدين في فرنسا ليس مشروعاً من الناحية القانونية فحسب، بل يعتبره فرنسيون كثر أيضاً ركيزة أساسية لحرية التعبير في مجتمع ديمقراطي، وهذا ما تجلى في الرسوم المسيئة لرسول الإسلام محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم -، من قبل مجلة (شارلي إيبدو)، وغيرها من الهجمات على الرموز الإسلامية، التي جاءت في معرض حرية الرأي! بينما جاءت الاعتذارات والتأسفات تترى من قبل منظمي الأولمبياد بخصوص الهجمة على السيد المسيح، والعشاء الرباني.
ويُعدّ قياس التحيّز الفرنسي ضد المسلمين أمراً صعباً، ويُعزى ذلك – من ناحية – إلى صعوبة فصله عن أشكال التحيّز الأخرى، ومن ناحية أخرى، بسبب التشديدات الفرنسية القوية ضد الدراسات الاجتماعية للدين. ففي عام 2015، توصّل باحثون من (Institut Montaigne)، وهي مؤسسة فكرية مركزية، وواحدة من المؤسسات الفرنسية القليلة جدًا التي تهتم بالتساؤل، إلى طريقة ذكية لقياس التحيّز ضد المسلمين، وعزله عن التحيّز العنصري، أو كره الأجانب، بواسطة التقدم إلى فرص العمل عن طريق متقدمين وهميين بسير ذاتية وهمية.
وكان الاشخاص الذين تم إعدادهم للتقديم لبنانيين، ويشير الاسم الأول للمتقدم مباشرة إلى انتمائه الديني، وبالتالي يمكن أن تُعزى الاختلافات في ردود الفعل تجاه هؤلاء المتقدمين إلى سبب معاداة الأديان، خلافاً لأسباب التحيّز العرقي، أو معاداة الأجانب، وكانت النتائج صادمة: إذ حصل المتقدمون الكاثوليك على ردود هاتفية ضعف ما حصله المتقدمون المسلمون، بينما كانت سيَرهم الذاتية متطابقة من جميع النواحي، باستثناء انتمائهم الديني.
ومن ناحية أخرى، أجرت (Harris Interactive)، في عام 2013م، قبل الهجمات على (شارلي إيبدو) في عام 2015م، و قبل موجة اللاجئين، التي زادت من حدة التوترات، استطلاعاً للرأي على آراء الشعب الفرنسي بشأن المجتمعات الدينية، أظهر نتائج مذهلة: إذ قال 73 % من المشاركين، إن لديهم نظرة سلبية للإسلام. وقال 90 % إن ارتداء الحجاب الإسلامي “لا يتماشى مع الحياة في المجتمع الفرنسي”، و63 % يعتقدون أن الصلاة خمس مرات في اليوم تتنافى مع حياتهم أيضاً. وإذا كانت مشكلة الشعب الفرنسي مع الإسلام تتعلق بالعلمانية، فيجب اعتبار الراهبات الكاثوليكيات اللاتي يرتدين النقاب “غير متماشيات” مع المجتمع، ومع ذلك كان لدى غالبية المشاركين في الاستطلاع ذاته رأي إيجابي عن الكاثوليكية. هذه الظاهرة غير واعية إلى حد كبير، ولكن في الممارسة العملية تتحول العقيدة الفرنسية العلمانية إلى نفاق مؤسسي. والنتيجة المتوقعة تماماً لهذا النفاق، هي حلقة مفرغة من التطرف المتبادل.
ومنذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ازدادت نسبة النساء المسلمات اللائي يخترن ارتداء الحجاب الإسلامي زيادة ملحوظة، وفقاً لأبحاث عالم الاجتماع الفرنسي (رافائيل ليوجير)، فلا يوجد أي غموض يعتري الموضوع.. لقد كان الهدف من مشروع القانون السيء السمعة، الذي يحظر الحجاب الإسلامي في المدارس، والصادر في عام 2004م، هو تهدئة التصوّرات العامة حول الإسلام، عن طريق تحويل المدارس إلى أماكن آمنة، وقد حقّق عكس ذلك. ومع ذلك، فلا توجد شخصية جديرة بالملاحظة في السياسة الفرنسية تفكّر في توقيف هذا القانون، أو حتى في تخفيف حدته.
إن مشاكل دمج المسلمين، أوسع بكثير من العقبات التي تثيرها العلمانية الفرنسية. ولكن الشعار العلماني يخنق النقاش العام، ويمنع التقدم في الأبعاد الأخرى، سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية. وكل هذا يطرح السؤال: أين هو إيمانويل ماكرون؟ ففي وقت سابق من عام2019م أعلن مكتبه أنه سيلقي خطابًا تاريخيًا حول العلمانية، قبل أن يتم إلغاء الخطاب بعد ذلك. ومن الجدير بالذكر أن (ماكرون)، الذي دافع عن قانون جديد يفرض ضوابط أكثر صرامة على الهجرة، التزم الصمت بشأن حكم الزي الديني الذي أقرته أغلبيته، وبصرف النظر عن الإلماحة التي تم تسريبها من خلف الأستار إلى الصحافة بأنه يفضل فهمًا أكثر تساهلاً للعلمانية، فمن التافه جداً من رئيس دولة منتخب بولاية، أن يتحدى بجرأة الوضع الراهن.
إن العَلمانية الفرنسية تكيل بمكيالين تجاه الإسلام، ففي الوقت الذي يكون لها موقف متصلب من الإسلام، يكون لها موقف مرن واعتذاري بشأن أي إخلال بالرموز اليهودية أو المسيحية، على حدٍ سواء؛ وهذا ناتج من أسباب آيديولوجية وتاريخية ترجع إلى العصور الوسطى، حينما قادت فرنسا الغزو الصليبي على المشرق الإسلامي، وبعد فشل تلك العملية، بدأت فيما بعد في غزو البلدان الإسلامية المطلة على البحر الأبيض المتوسط من جهة الجنوب، وخاصة الجزائر سنة 1830م، كتعويض عن خسارتها في بلاد الشام ومصر؛ لذلك كانت انتهاكاتها ومجازرها ضد الشعب الجزائري المسلم ناتجة عن صليبيتها الحاقدة، وتنفيساً عن فشلها، حينما أسر المسلمون ملكها (لويس التاسع)، في أعقاب معركة المنصورة الخالدة!