أثر شخصية الرسول ﷺ على الفتوحات العربية – الإسلامية
سعد سعيد الديوه جي
مما لا شك فيه أن الفتوحات التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية، بعد نجاح الدعوة الإسلامية التي أرساها الرسول محمد ﷺ، قد تمت دراستها من جوانب عديدة شرقاً وغرباً، والتي كانت في إحدى جوانبها معجزة كبرى، خصوصاً أن من نتائجها سقوط الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، ونشوء نظام عالمي جديد على يد قوة لم يُحسب لها حساب آنذاك.
وعلى صفحات الإنترنت شاهدت مفكراً مُلحداً راحلاً، همّه الأول والأخير التطاول على كل ما يتعلق بالإسلام، في الوقت الذي يدعي أنه ينطلق من أُسس علمانية لم يلتفت إليها من قبله أحد، والغريب في المسألة انتشار هذه الظاهرة على يد أُناس لا يؤمنون أصلاً بالدين.
وكان مما قاله هذا المفكر بأن الفاتحين الغزاة انطلقوا من أرض جرداء قاحلة لا فيها أثر للحياة، وأهلها يأكلون كل حيوان متحرك، فماذا نقلوا إلى البلاد المفتوحة، غير التخلف والجهل؟.
أولاً، وقبل كل شيء، فبالرغم من قساوة مناخ وأرض الجزء الأعظم من شبه الجزيرة العربية، فقد كانت فيها حياة تتلاءم مع أجوائها بجانب الحياة البدوية، وكانت هنالك تجارة وزراعة وعمران في بعض أقسامها؛ كاليمن، وهذه مسألة يعرفها حتى طلاب الابتدائية.
أما ماذا نقلوا إلى البلاد المفتوحة، فذلك من أسخف الأسئلة التي يطرحها إنسان يدعي العلمية والعلمانية، خصوصاً بعد أن اتخذت الحضارة العربية – الإسلامية مكانها المتميز بين حضارات العالم، وأضحت آثارها في شتى المعارف معروفة للقاصي والداني، ناهيك عن العمران المتميز.
وفي هذا المجال سوف ننطلق من كتاب (محمد أول جنرال في الإسلام)*، للمؤرخ العسكري (ريتشارد غابرييل)، وهو واحد من أشهر المؤرخين العسكريين في وقتنا الحاضر، والذي دفعته دراسته الموضوعية بعيداً عن الأحقاد لتقييم شخصية الرسول محمد ﷺ، وتأثيرها على مجمل أوضاع أتباعه من المسلمين، وكيف تحولوا من قبائل متخاصمة إلى قوة جديدة؛ بقيم حضارية وأخلاقية لم يعرفها العالم من قبل.
ولن ننطلق من جوانب اعتقادنا الديني، حتى لا نُتهم بالانحياز الديني في طرحنا للموضوع، ولكن سننطلق من انطباعات هذا المؤرخ الأجنبي عن شخصية (محمد)●، الذي يقول: فلولا نجاح محمد بوصفه قائداً عسكرياً، لبقي الإسلام واحداً من طوائف دينية هامشية!.
ويعزو المؤلف نجاح الرسول ﷺ بقوله: بأن محمداً صار قُدوة لأتباعه، وكان جنرالاً عظيماً، ففي غضون عقد واحد خاض ثماني معارك كبرى، وقاد ثماني عشرة غزوة، وخطط لثلاث وثلاثين عملية عسكرية أخرى، قادها آخرون تحت أوامره وتوجيهه الاستراتيجي.
أُصيب مرتين، وكُسِر جيشه.. وكان صاحب نظرية عسكرية، وأكثر من مجرد جنرال بارع في التكتيك الحربي، وكان صاحب نظرية في إصلاح المؤسسات، ومفكراً إستراتيجياً، وقائداً حربياً، وزعيماً سياسياً وعسكرياً، وجندياً بطولياً، ومخترعاً لنظرية التمرد، وأول ممارس ناجح لها في التاريخ.
ويضيف المؤلف: إن إيمان محمد الراسخ بالإسلام، ودوره كرسول ونبي، قد أحدث ثورة في الحرب في الجزيرة العربية، ومنها إنشاء أول جيش متراص في العالم القديم بدافع من نظام إيديولوجي متماسك.
لقد أثرت نفسية محمد على أتباعه، ولولا ما زرعه فيهم لما استطاع خلفاؤه هزيمة جيوش الفرس والروم، وإرساء قاعدة إمبراطورية إسلامية.
لقد كان محمد من المحاربين الذين لم يسبق لهم مثيل في تلك الأزمنة.. لم يكن هدف محمد هو هزيمة العدو الأجنبي أو الغازي، إنما استبدال النظام العربي القائم بنظام جديد يستند إلى نظرية إيديولوجية مختلفة جذرياً، وهي الإيديولوجية المعتمدة على أُسس إسلامية.
وينبّه المؤلف الى مواقف عديدة نادراً ما يفكر بها المسلم المؤمن انطلاقاً من إيمانه بالرسالة، وهو أمر مشروع، ولكننا نعالج الموضوع من زاوية خاصة محايدة.
فيلفت النظر بقوله: بأن الجيوش التي حققت تلك الفتوحات لم تكن موجودة قبل محمد، وأن تأثير شخصيته (يقصد الرسول ﷺ) – حسب رأيه – على الأتباع كان لها الأثر العظيم على مجرى الأمور حتى بعد وفاة الرسول – عليه الصلاة والسلام -.
ويلمّح المؤلف، بدون البوح المباشر، بقوله: بأن القرآن الذي صار هداية لأتباعه، لم يكن كتاب سيرة كالأناجيل التي تتكلم عن سيرة المسيح، أو كالتوراة التي تحتوي في معظمها على تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم.
وبعيداً عن السيرة العسكرية، يذكر المؤلف مسألة (صحيفة المدينة) كأمر مركزي في الانتماء للأمة، وأنها كانت جزءاً ملازماً للسلوك العسكري لمحمد.
وكان التوحيد همّه الأول والأخير، فليس هنالك إلا إله واحد هو الله واجب الطاعة، بدون إشراكه بصفات بشرية أياً كانت، وبالرغم من شظف العيش فلم يتخل أتباعه عنه، وكما يقال فإن معظم طعامهم كان الماء والتمر، واستطاعوا فعل ما لم يفعله غيرهم، خصوصاً في أيامهم الأولى.
ويخلص المؤلف بتسمية الرسالة بـ(الحركة)، ورغم عدم توافقنا معه بالرأي، والتي لم تنجح إلا بتفاني أتباعها، وعبقرية قائدها؛ في حياته وبعد وفاته.
ويشير المؤلف إلى نقاط لازمت سيرة الرسول ﷺ، تضاهي التنظيمات العسكرية؛ منها صلح الحديبية، والذي يعتبره من أعظم الانتصارات السياسية لمحمد في حملته لهزيمة أعدائه، وترسيخ الإسلام. وهكذا وبضربة واحدة غَيّر محمد ميزان القوى السياسية في المنطقة، في نفس الوقت الذي أرسل فيه محمد ست رسائل إلى كبار قادة العالم آنذاك خارج الجزيرة العربية، بمن فيهم أباطرة الفرس والروم.
وبهذا الفكر قامت رابطة العقيدة مقام رابطة العشيرة والدم.
وأخيراً، فالأرض الجرداء لم ينقل أصحابها التخلف والجهل للإنسانية، إلا إذا كان المتكلّم حاقداً، لا يفهم من التاريخ سوى تسطيحه، وسرد الأكاذيب، وإن على الحاقدين أن يقرأوا التاريخ مثلما قرأه (ريتشارد غابرييل)، وغيره ممن يتسمون بالموضوعية والعقلانية.
*ريتشارد غابرييل، محمد أول جنرال في الإسلام، ترجمة: أحمد العبرة، جسور للترجمة والنشر، بيروت، ط1، 2023م.
● آثرنا نقل الاسم الكريم كما جاء في الكتاب.