كتاب الحوار/ الشاعر والأديب الكوردي (پیرەمێرد) (القسم السابع)
بقلم: عمر إسماعيل ـــ نقله إلى العربية: سرهد أحمد
الإنسان من منظور (پیرەمێرد):
لم يغفل (پیرەمێرد) الإنسان، فقد أفرد حيّزاً شاسعاً في أعماله الشعرية، لعرض منظوره، وتوطين معرفته به؛ في سياقات أدبية ممتزجة بموضوعات الدين، على اعتبار أن الإنسان كائن معقد، متشابك الأفكار، ومتداخل المشاعر، ومن هنا جاءت التعريفات لفيفاً من المفاهيم المتباينة؛ فالفلاسفة والمناطقة يرونه كائناً مُلمّاً بالمعرفة، متّسماً بالمسؤولية، وعند علماء الاجتماع؛ هو كائن اجتماعي تربطه علاقات مع الآخرين من البشـر، لا يمكنه العيش بمعزل عن بني جنسه، بينما يراه علماء الأديان كائناً متديناً، وحتى علماء النفس لهم تعاريفهم الخاصة، وكذلك علماء الطبيعة؛ إذ يرونه كائناً يمشـي على قدمين! وفي ظل هذا التباين؛ يَصعب الخروج بتعريف موحد للإنسان، فقسم من التعاريف تصف الإنسان وفقاً للخصائص التي يتميز بها عن باقي المخلوقات، وهو ما نلاحظه بسهولة إذا ما قارنّا هذين التعريفين، الأول القائل: “كائن يسير على قدمين، يتنفس، يأكل، ينام، ينمو، ومصيره في النهاية الموت المحقق”، وأما الثاني فيقول إن: “الإنسان كائن حي، يتكلم، يفكر، يفهم، يعمل، ويشعر بما حوله”.
وقصدنا من التعريفات المذكورة آنفاً، التمهيد لجلاء الأفهام في بيان منظور (بيرةميرد) الحكيم والأديب للإنسان، ومدى تطابقه مع التصور الإسلامي من حيث الشمول والعموم، وهل انطلق في نظرته إلى الإنسان من منظور الإسلام؟ وما هو الناظم القيمي؛ الذي استند إليه في تعريف الإنسان؟
في المستهل، علينا الأخذ بمنظور القرآن الكريم، بعدها نولّي وجهتنا صوب قصائد وأمثال (پیرەمێرد) لنعرف مدى الاشتقاق المؤصّل من كتاب الله في التعرّض لـلإنسان؛ تعريفاً وفهماً، في هذا التراث الأدبي.
وإذا ما تدبّرنا الآيات القرآنية التي ورد فيها الإنسان، يتجلى لنا أن الله تعالى خلق الإنسان خلقاً جمع فيه بين المادة والروح، واستخلفه في الأرض وأكرمه، فهو مهيّأ لهذه الغاية السامية؛ بمنحه القدرات الكافية، لذا تراه مسؤولاً عن العمارة والإصلاح في الأرض، والعمل لأجل تنمية المجتمع الإنساني وتطويره من الجوانب المادية والروحية والمعنوية، بالاستفادة من القدرات والوسائل التي أتاحها الله لـه، من خلال المهن الموجودة؛ كـالصناعة والتجارة وغيرها من الوظائف.
إن عمارة الأرض هي الأمانة الإلهية المنوطة بالإنسان وحده، لقوله تعالى: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] الأحزاب: 72.
إن مفهوم (پیرەمێرد) المستوحى من القرآن الكريم بشأن الإنسان، يمكن إجماله في النقاط الآتية:
أولاً/ الإنسان خلْق الله:
يعتقد (پیرەمێرد) أن هذا الكائن لم يأت بذاته، أي لا دور له في خلق نفسه بتاتاً، كما أن الطبيعة عاجزة تماماً عن خلق كائن أعلى منها شأناً وأدق تكويناً، ناهيك عن بطلان فرضية الصدفة في صيرورة الإنسان بمرور الأزمان.
وقد أظهر (پیرەمێرد) براعة أدبية في التوكيد على خلق الله للإنسان، وأنه لا دخل لأي شيء آخر بهذه النشأة. وها هو يقول في نسج من الأمثال والحكم:
الله الذي منحنا هذه الأبدان
وغرس فيها هذه الأضداد
وطالما كان هذا أصل الأبدان،
فهذا يعني أننا خلق الله.
ثانياً/ طبيعة الإنسان المزدوجة:
إن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة في تكوينه الأصلي الذي جمع الله فيه بين المادة والروح، وفي استعداده للخير والشـر، بمعنى يمتلك الإرادة والحرية والاستقلالية، فهذه الطاقة الممنوحة له، والإمكانيات المسخرّة بين يديه؛ بمقدوره توظيفها في أعمال الخير، أو صـرفها في تنفيذ أفعال شريرة، كما بإمكانه إضافة المزيد من الجمال للحياة، أو على العكس من ذلك؛ إفناء الحضارة وتدمير أشكال الحياة. ويؤكد (پیرەمێرد) هذه الحقيقة منشداً:
الله الذي منحنا هذه الأبدان
وغرس فيها هذه الأضداد
إحداها الروح الطاهرة
والأخرى النفس اللامبالية
وجهة الروح للرحمن، والنفس للشيطان
والعقل منحة إلهية، حارسٌ عليها
فإلى جانب القوة والرغبات المادية؛ التي وهبها الله للإنسان في مقابل القدرات والأشواق الروحية، هناك إضافة ثالثة غرسها الله في الإنسان، وهي ملكة (المقارنة) و(التقييم)، ثم (الترجيح)، التي يؤدّي العقل فيها دور الحارس والموجّه. وهو ما يشدّد عليه پیرەمێرد في هذه الأبيات:
لكن هذه الأمثال هي لأسلافنا
يقولون (العقل لدى الرجال ضيف)
فهذا العقل الذي هو ضيفك
تراه فجأة يهرب من بين يديك
العقل يقول: العمل الذي لا بد أن تنجزه،
يتحتم عليك التفكير في ماهيته
فإن رأيت عاقبته خيراً
فامضِ لتحقيقه ما استطعت
وإن عرفت أن لا نتيجة له
فلن ينفع بذل الجهد من أجله
لكن هناك العديد من الدوافع والطاقات والبواعث الداخلية والنفسية التي يمكن أن ينسلّ الشيطان من خلالها؛ ليحرّكها نحو الإقدام على فعل الشـر، ليكون بمقدوره السيطرة على الإنسان، وتسخير قدراته في الهدم والتدمير.
لا غرو، فالشيطان منذ بداية خلق الإنسان كخليفة في الأرض؛ أبى الانصياع للأمر الإلهي بالسجود لأبينا آدم، وقطع عهداً على نفسه بحرف هذا المخلوق عن جادة الصواب، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد وردت هذه السردية في النص القرآني: [إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَـرًا مِّن طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ. إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ](سورة ص، الآيات: 71-83).
وفي ضوء النص القرآني؛ حاك (پیرەمێرد) قصيدة وردت في ثنايا أبياتها المعركة المتواصلة بين الخير والشر داخل النفس البشرية، وتلبيس إبليس على ابن آدم:
وحين يعبث الشيطان بالنفس
تتعطب الروح، ويزيغ العقل
النفس تستجيب وتقول حسناً
كل هذه النساء الفاتنات زميلات!
وأنت تمسك زمام العقل
وعندما تسقط، سيذرف الدموع لأجلك
من الجلي أن الشيطان يسعى لتخريب المعادلة، ويذهب العقل، لكن الله لم يطلق يده ويترك الإنسان فريسة لهذا المتمرد، إنما أرسل النبيين لإنقاذه من براثن الضلال، وقد أشار (پیرەمێرد) في أبيات أخرى إلى هذه الحقيقة قائلاً:
منح الله صفتين لبني البشر
يوظفهما للخير أو للشر
إحداها تحفظه، والأخرى تسحبه
المنفي والمثبت يلتبسان عليه
يحاول شاعرنا بهذه الأبيات المبسطة أن يقرب إلى الأفهام معنى غلبة ملكة الخير على طبيعة الشـر، هي من تجعل الإنسان متصدّقاً محسناً، ينبذ الإنانية، يحب الخير للآخرين، كما وتحرّك فيه الطاقات الإيجابية نحو عمارة الأرض وازدهارها.
وفي موطن آخر يشير إلى أن الازدواجية في الذات البشـرية هي تجسيد لثنائية الخير والشر، ويوصي بضبطها قائلاً:
كل ما في الأمر أن القناعة
واسطة لبلوغ الأسباب
وعلاجها الوحيد هو الدين
دين الإسلام حصن للعقل
والأخلاق تفضي إلى الخير بالدِّين
أسفي؛ هذا الماء العذب، عكر
وهنا يتحدث أديبنا عن الأخلاق، ويشدّد على أن مصدرها الدين، وهذا بحث مهم سنتناوله بالتفصيل لاحقاً.
ثالثاً/ مسؤولية الإنسان في أداء الأمانة الإلهية:
إن الأمانة الإلهية الملقاة على عاتق الإنسان ورد ذكرها في القرآن الكريم في (سورة الأحزاب)، الآية/ 72: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا]، وتتجسد في عبادة الله، وعمارة الأرض؛ فهي أمانة ثقيلة، لم تستطع الأرض ولا السموات ولا الجبال أن يحملنها، لكن الإنسان حملها، لقابليته، وامتيازه بين المخلوقات باستعداده للتكامل إلى أعلى عليّين، ومن هنا فإنه يحمل مسؤولية عظيمة يتحتم عليه أداؤها.
وعلى ضوء هذه الآية المباركة، أكد (پیرەمێرد) في أبيات شعرية أن الإنسان اختار حمل الإمانة طوعاً، ولطالما هذه إرادته؛ كان لزاماً عليه تحمّل المسؤولية؛ سلوكاً وعملاً:
عرض الله الأمانة على الجبال والتلال
فأبت، وأشفقن من حملها
لكن ابن آدم هو من حملها
ظنّها هيِّنة، وستؤول إليه
والآن حين يطلبونها منه
يلوي برقبته، منتحباً
ينسى أن عمره أمانة
وذهابه سدى خيانة
وفي أبيات أخرى يسعى (پیرەمێرد) إلى تصوير ما جاء في ختام الآية: [إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا]، حيث يقول:
بعضهم حين يُقبل ويأتي دوره
يرى أنه يعتلي الشجرة بخفّة
ولما ارتقى زال عنه الخوف
يأكل حتّى يتثاقل
وحين يثقل وزنه يتهاوى
….
قال الله إنا نحن عرضنا الأمانة
عرضناها على الأرض والجبال
لم تكن راغبة، وأبين أن يحملنها
لكن الإنسان أبدى استعداده لها
جج
رابعاً/ منح الإنسان القوة والوسائل لإداء الأمانة الإلهية:
من المؤكد أن الله سخّر السموات والأرض للإنسان، إلى جانب ذلك منح الله الأناسي جميعاً العقل والإرادة والحرية، وكلّفهم بالسعي والتنافس الإيجابي على تقديم الأفضل؛ تحقيقاً لهذه الأمانة، والاستفادة القصوى من الكسب الحلال لأنفسهم، ومن ثم القيام بعمارة الأرض.
وفي هذه الأبيات الشعرية؛ أشار (پیرەمێرد) إلى ثنائية القوة المادية والروحية التي يحوزها الإنسان معاً:
منحنا الله هذه الأبدان
وغرس فيها خصيصتين متضادتين
إحداهما الروح بهذه الطهارة
والأخرى هي النفس الأمّارة
الروح وجهتها الله، والنفس إلى الشيطان
والعقل منحة ربانية، جعله حارساً
وفي أبيات أخرى ذات صلة يقول أديبنا:
وهب الله البشر صفتين
يستخدمهما في الخير أو في الشر
إحداها تحفظه، والأخرى تسحبه
المنفي والمثبت يلتبسان عليه
كل ما يهبه الله لأحدهم
يودّ أن يمنحه لأحبابه
خامساً/ واجب الإنسان في الدنيا العمل والكفاح تحقيقاً لمبدأ الاستخلاف:
طالما مُنح الإنسان القوة والإرادة، وأرسل إليه الأنبياء لهدايته، لذلك يتوجب عليه استثمار طاقاته وتوجيهها بما يحقق مبدأ الاستخلاف القائم على العبودية لله وعمارة الأرض وفق منهج الله تعالى، وهذان الأمران لا يتحققان إلا ببذل الجهد والمثابرة، وليس بالتواكل والاقتصار على الدعاء، وادّعاء التوكّل، كما هو عادة بعض الدراويش والمتصوفة؛ ممن غلب عليهم الكسل والبطالة، بحيث باتوا عالة على المجتمع. وقد أكّد (بيرةميرد) هذه الحقيقة، وسعى لتكريس مفهوم أمانة الاستخلاف في الأذهان، من خلال هذه الأبيات:
الجهد سُلّم ترتفع به
إذا تركته وقعت أرضاً
بالعمل والكدّ كافحْ كالأسد
اليد المتعبة على البطن الشبعان
الكسول حين يقول: أصرف كُلّ ما عندي
وبعدها يصرخ نادماً: آه، ماذا جنيت على نفسي؟
إن الانسان العامل والمكافح؛ يَكبُر، ويحاول إظهار المنزلة التي تليق به نتيجة التكريم الإلهي، وإن القدرة والإرادة الممنوحتان له لم تذهب سدى، فهو يؤدّي الدور المنوط به، ينمّي شخصيته، ويرتقي بالمجتمع، ويفعّل طاقاته، ويستثمر الوسائل المتاحة لتشييد الحضارة، بخلاف المتواكلين والكسالى والعالّة على الآخرين. وفي هذا الصدد يعبّر (پیرەمێرد) بالأبيات أدناه:
إذا استغنيت عما في أيدي النّاس
ستنظم لركب أصحاب النبـي
إذا تسوّلْتَ، سينحطّ شأنك
وإذا انحطّ شأنك، ستهوي في الحضيض
كُلِّ قليلاً، لن تعتلّ أبداً
لا تثرثر، لتنجو برأسك
لا تمدنّ عينيك لموائد الآخرين
فلن يشبع منها سوى الدنيء
نحن في زمنٍ؛ الرياسة
تُنال بالمهارة، لا بالكياسة
لا يحسبون للمتعلِّم حساباً
لأنهم يعدّون أنفسهم أكثر علماً
لا ريبَ أنّ كُلَّ شيء بيد الله
فمن لا يتملّق، يكون في ذيل القافلة
بهذه التركيبة الشعرية واللغوية البسيطة، يسعى (پیرەمێرد) لتذكيرنا بأن المستخلِف هو الله تعالى، والمستَخلف هو الإنسان، والمستخلف عليه هو الأرض، فهذه تراتبية ثابتة. لذا، فالإنسان محكوم بأداء ما عليه من واجبات؛ فلا يتوقعن أن يؤدّي الله تعالى مهام الاستخلاف بدلاً عنه إطلاقاً، إذ عليك الكفاح، ومن ثم التوجه إلى الله متضرّعاً أن يبارك مسعاك، والظفر بالنجاح.
ويسترسل أديبنا في أبيات أخريات قائلاً:
لن ينوب الله عنك في عملك!
الزبادي لا يتحوّل شنينة دون خضّ
(وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى)
في البدء سعيٌّ، ثُمَّ الدعاء
وفي موضع آخر يقول:
الرزق لا ينزل من السماء إلى الأرض
شرطه أن تسعى لكسبه
ليس بالتسول من بيت لآخر
بل ببذل الجهد، وكسب الحلال
سادساً/ الإنسان يحيد عن الرسالة الإلهية، ويتجاوز حدوده، حال اغتنائه واكتسابه القوة:
الطبيعة البشرية المنفلتة عن الضوابط؛ تميل إلى الانحراف عن جادة الصواب والتنكر للأحكام الإلهية، والتجاوز على حقوق الغير، وسلب حرية الآخرين، والتسلط عليهم، إذا ما امتلك صاحبها قوة السلطة والثروة. فعن هذا يقول (پیرەمێرد) مستنكراً في أبيات:
هذا ابن آدم كثير التقلّب
كأن إكسير الحياة في فمه
حين يمسك بكرسي السلطة
يلتصق به إلى الأبد
يتبدّل سلوكه وطباعه
ويظنّ أن القبر لن يضمه
وفي مقال نشره في صحيفة (ذيان)، العدد (471)، بعنوان: (الحقوق الأساسية، مسؤولية المبعوث، جريرة بحق الشعب)، يناقش فيه أحوال الدول الدستورية المتحضرة التي تمتلك برلمانات ومؤسسات قانونية، ويسوق في ثنايا النقاش؛ آراء متعددة لمفكرين وخبراء قانون إزاء جرائم يرتكبها نواب الشعب، وكيفية إخضاعهم للمساءلة، واقتيادهم للقضاء، وإنزال العقوبات بحقّهم.
ويتوصّل (پیرەمێرد) إلى نتيجة مفادها أنه لا بد من إخضاع القابضين على السلطة للمساءلة، ومراقبة المكلّفين بوظائف عامة، في وطنه كوردستان، وعدم تركهم لـ(وجدانهم)، لأن ذلك سيجرّهم لتجاوز الحدود المرسومة لهم، وبالتالي يؤدي بهم إلى الطغيان، مستدلاً بالآية القرآنية [كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ . أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ].
إن هذا المقال النقاشي بمثابة دعوة لـ (الإصلاح المؤسسي) صادرة عن أحد أبرز الأدباء المصلحين الكورد، خلال حقبة ربما اتسمت بالترهل وغياب الرقابة في منظومة الحكم والإدارة آنذاك.
سابعاً/ الإلمام بسيكولوجية الإنسان:
الكثير من القصائد والأمثال والحكم التي نظّمها (پیرەمێرد)، تعكس مدى الإلمام الواسع بسيكولوجية الإنسان، وخبرة اكتسبها من عمله الوظيفي في الدولة، أو تجارب من مشاركاته في هيئات سياسية ومنظمات مدنية، وكذلك اختلاطه مع مختلف الشرائح الاجتماعية والطبقات المسحوقة والمتعففة من العامة، وكثرة التجوال والسفر، جعلته بارعاً في الإحاطة بإسرار النفس البشرية كما لو كان استشارياً في الطب النفسي، بحيث أضافت إلى خزينه المعرفي؛ مما أفادته في أن يخطو بنجاح خلال تواصله مع الناس وتلبية حوائجهم.
والأبيات أدناه دليل على ما سلف ذكره:
دوام حال ابن آدم من المحال
مال الدنيا وحالها يربك ويغري
إن حزته استقللته، وإن فاتك حزنت على فقده
القناعة راحة المرء ومصدرها
وفي أبيات أُخر، يتحدث (پیرەمێرد) عن الحالة النفسية لبعض الأشخاص، وشرائح أخرى داخل المجتمع الإنساني، وكيف يقف الحكيم والأحمق تجاه بعضهما البعض:
المكان المكتظ بالحمقى
الحكيم مضطرّ للخروج منه
إذا المستبدّ تملّك السُّلطة
فإما أنْ تخضع، أو تُهاجر مُرغماً
ثم يُعرج (پیرەمێرد) في أبيات؛ متحدّثاً عن الزاهد والعالم والمحسن، وهؤلاء الثلاثة مقبولون عند الله، وكل واحد منهم يؤدّي خدمة. كما ويتحدث عن أناس لا يمكن إرضاؤهم، لأنهم قرّروا مسبقاً ألا يرضوا:
هناك ثلاثة طوائف موهوبة
مقبولون عند الله والناس
الأول زاهد ينجي نفسه
والثاني عالم يعمل بعلمه
والثالث محسن هو المنقذ
الثالث أهلٌ لمن لا أهلَ له
والآخرانِ نفعُهما باللِّسان
ثامناً/ من حكم الله وجود آمال كبيرة ودائمة لدى الإنسان:
وجود آمال كبرى، ونسيان الخسائر والمصائب، والتشبث بالدنيا، والرغبة في الديمومة تحت أي ضغوطات وأيّ أوضاع كانت، والصراع مع الآخرين، والجرأة والاستعداد للتضحية، كل هذه المسائل متأصلة في الإنسان، لأن الله الخالق جبله على هذه الطبيعة، لكي لا يألوا جهداً في تفجير طاقاته واكتشاف كنوز قدراته المخبأة.
وهنا يبرز العامل الأكثر أهمية وهو الإصرار والمثابرة حتى يقوم بالإبداع والابتكار، وبالنتيجة يُصار إلى عمارة الأرض تحقيقاً لمبدأ الاستخلاف.
وهذا ما ركّز عليه (پیرەمێرد) في أبيات أنشدها قائلاً:
إذا أردت أن تكافح في هذا العالم
عليك أن تسير في طريق النسيان
وإلا فإن الموت أمام الأنظار
ولا طعم لحياة ملؤها الخوف
إن لم يهب الله الإنسان النسيان
فمن يكافح لحياةٍ معدودة؟!
فإذا لم يكن الإنسان على هذه الشاكلة، كالتعلّق بالآمال الكبرى، وحبّ الخلود الأبدي، ومواجهة الصعاب، وعدم نسيان الذكريات المؤلمة، سيكون من الصعب عليه العيش في هذه الحياة طالما هي أيام معدودة، وكان سيفقد القدرة على تحمل آلام الكدّ، وكل التعب الدنيوي.
وأردف (پیرەمێرد) في أبيات، يذكّرنا بهذه المفاهيم:
نريد الدنيا حتى ونحن على حافة القبر
لا راحة في الدنيا؛ هكذا قال الرسول
تعيش اليوم مع غيرك
تنظران إلى بعضكما وتتحادثان
وفجأة تفترقان، فلا تدري أحقيقة كان ذلك أم خيال!
إذ يأذن ملك الموت بالنهاية!
تحاول نسيان هذه الأشياء
وتجدّد عمرك بالآمال
يُنسي الإنسان نفسه هذه الأشياء؛ أو ربما ينساها أصلاً، فالنسيان من مظاهر الرحمة الإلهية، فلولاه لكانت الحياة مظلمة بكل أبعادها وتفاصيلها، وسيجد صعوبة بالغة في العيش.
واقع الحال هذا؛ أكّده (پیرەمێرد):
كُلّما طال عمرك زاد طيشك
رهين نفسك وهواك
هذه سمة الإنسان، وهي من السنّة إلالهية في البشر جميعاً، لكي يكون بمقدورهم الاستمرار في الحياة.
وتابع أديبنا منشداً:
ليس بيدك، بل طبيعتك هكذا
لإدامة الحياة، تلك إرادة الله
وفي ثنايا أبيات أخرى حول النسيان أو التناسي كطبيعة بشرية، يتحدث (پیرەمێرد) عن عدم اتعاظ الإنسان من الانتكاسات والنكبات، فهو لا يفوق إلا حينما يسقط، ولا يعتبر من التأفف حين تحترق يداه.
خلق الإنسان من النسيان
عيناه محتجبتان بالغفلة
لا يفيق إلا حينما يتعثر
فيسقط في حفرة محطّم الأطراف
تاسعاً/ كيف يتحوّل البعض إلى مستبدين وطغاة، متجاوزين كل الحدود؟
أحد الموضوعات التي تثير إشكالية فكرية وفلسفية منذ بزوع فجر التاريخ البشري ولغاية اليوم؛ هي السلطة، ونشوء الاستبداد السياسي، حيث شغلت فلاسفة مبرزين في اليونان القديمة، منهم (أرسطو وأفلاطون)، وحتى مسلمين معاصرين أمثال (عبدالرحمن الكواكبـي) و(مالك بن بني)، إذ حاولوا إيجاد تفسير لتحوّل بعض القابضين على السلطة إلى مستبدين وديكتاتوريين، يتجاوزون كل الحدود.
وقد تعرّض (پیرەمێرد) أيضاً لهذه الظاهرة في قصيدة سـردية، مُرجعاً السبب إلى النقص وعدم الثقة بالنفس وضعف الشخصية لدى الجماهير، تهيئ أرضية خصبة لنشوء نوع من الحكام المستبدين يفرضون سطوتهم على المحكومين، لإخضاعهم كعبيد. فالسبب عند (پیرەمێرد) يعود إلى ثلمات الطبيعة البشرية، وليس لأي عامل خارجي، بمعنى آخر أن الطغاة لا يصنعون عبيداً، إنما العبيد هم الذين يصنعون الطغاة.
إذا كانت مآثر آبائنا وأجدادنا
الضرب بالسيوف في الميدان والشجاعة
يقولون ضربه على أعلى رأسه
وشقّه حتى منتصف خصره
كانوا يشتهرون بالبطولة
يخضع لهم كل من رآهم
يحسبون القتل بطولة، والنهب فنّاً
وهكذا كان يستتب لهم الأمر
قطع الطرق غزو، والإجرام حلال
الكل مشترك السارق وصاحب البيت
كل رأسماله رمح وحصان
وأجسامهم مرتع للقمل
كانوا يحسبون خدمتهم فخراً
وما ينهبونه يضعونه بين يدي الآغا
والآغا يريق ماء وجههم غير مبال
ويقوم بحبسهم في الزريبة
حينها يتوجّهون إلى الله بالشّكوى
قائلين: يا رب، ماذا حلَّ بنا؟
وصوت الغيب يرد: يا من وقع عليهم البلاء
أنتم من عاونتم الظالمين
من أعان ظالماً
سلّطه الله عليه
إنّ آراء (پیرەمێرد) الحكيم والفيلسوف؛ لم تلق الاهتمام الذي يليق بمقامه، ولو كانت صادرة عن أدباء غربيين لـلاقت عناية وتوثيقاً، ولكتبت حولها أبحاث علمية ودراسات أكاديمية في الاختصاص السيكولوجي والاجتماعي، ولتحولت إلى نظريات، ولـسارعت النخب إلى اقتباس مقتطفات من تلك الآراء، وإبرازها، وإن كانت ضحلة.
وأجزم أن أديبنا قد تفوّق كثيراً في نظم القصائد والحكم والأمثال، عكست شمولية، وأصالة وعمقاً، كما وجسدت نموذجاً معرفياً وأخلاقياً رفيعاً، لكن البيئة لم تكن مؤاتية لإبرازه كأحد عمالقة الأدب الكوردي.
عاشراً/ الإنسان وسيلة لإنفاذ المشيئة الألهية:
نجدّد التوكيد على أن الإنسان مخلوق كريم على الله، فقد منحه الكثير من الطاقات والقدرات، ورغم ذلك يُظهر ضعفاً في مواجهة الخطوب، وعجزاً حين النوازل والكربات، وفي جانب آخر غرس فيه الرغبات والغرائز، لكنه مطالب بأن يلجمها، كما وخط له الواجبات، وسيّره كخليفة، ومع ذلك جعل معه الشيطان قريناً في الأرض. إن هذه التباينات في الإنسان؛ حيّرت كبار الفلاسفة والمنظرين إزاء الحكمة الإلهية من ذلك كله.
هذه بعض الحقائق التي تجعل من الصعب على العقل البشري إدراك كنهها، لأن ذاك عائد إلى الله تعالى، وليس للعقل الغوض فيه، فلا مجال سوى الامتثال والتسليم لأمر الله، طالما نؤمن بالعدالة الإلهية التي لا يُظلم في حضرتها الإنسان، وندرك أن الخالق فوق المساءلة [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] الأنبياء: 23.
والقول إجمالاً: إن الإنسان في هذا الكون وبين هذه المخلوقات، وفي ظل الغيب؛ لا يملك من أمره شيئاً سوى الانقياد والخضوع التام؛ إنفاذاً للمشيئة الألهية.
وقد ردّد (پیرەمێرد) هذه الحقيقة في أبيات:
بيده الخير والشر وحده
الجاهل فيها حيران
لا تغترّ أيها الخسران
فهذا الأمرُ ليسَ بقوّتك
أنتَ شيء تافه لا نفعَ منه!
المشيئة هي مَنْ وضعتكَ بينَ النّاس.
العدد 188 ǀ صيف 2024 ǀ السنة الحادية والعشرون