مقاصد الحج من خلال تفسير (في ظلال القرآن)
د. دحـّام إبراهيم الهسنياني – دهوك
لقد شرع الله تعالى العباداتِ لتحقيق غاياتٍ نبيلة وعظيمة، ومقاصدَ جمَّة وهامة؛ حيث عُنِي القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة بالمقاصد العظمى للعبادات، ومن ذلك شعيرة الحج التي تضمَّنت مقاصدَ كثيرة وأسرارًا عديدة. ومِن شأن الوقوف على هذه المقاصد والأسرار أن يُحقِّق المؤمنُ نتائجَ إيجابية، كما أن الجهل بمقاصدها قد يُؤدِّي إلى نتائجَ عكسية؛ فمردودُ انعكاس العبادة على قلب الإنسان، وعلى سلوكه، رهينٌ ببَعْث الإحساس في النفوس بمقاصد العبادة وأسرارها العظيمة.
تبرز أهمية الدراسة لمقاصد الحج في القرآن الكـريم، بـالنظر إلى أن الحـج ركـن مـن أركان الإسلام يطالب به كل مسلم استطاع إليه سبيلاً، مرة واحدة في العمر، وهو موسم يتكـرر كـل عـام، ويشهده الملايين من المسلمين، ولكن الكثير منهم يغفل عن تأمـل المقاصـد الجليلـة التـي لأجلهـا شرع الحج، وينشغل بالأحكام الفقهية الدقيقة – على أهميتها، وحاجة الحاج إليها – عن المقاصد والغايات والحكـم والدلالات، وهو ما يضعف أثر الحج في إصلاح النفوس والمجتمعات.
لذا، سأبيّن في هذا البحث أهم المقاصد والحِكَم التي تضمَّنتها هذه الشَّعيرة الربَّانية في القرآن الكريم، ومن خلال التفسير القيم (في ظلال القرآن)، للأستاذ الشهيد سيد قطب – رحمه الله تعالى -، حيث إن كثيراً من المشاكل التي تقع في الحج نجد حلولها في نصوص القرآن الكريم، التي تناولت مقاصد الحج في القرآن، وهذا ما حاولتُ بيانه، أسأل الله أن يتقبل منّا، وأن يعيننا على خدمة كتابه الكريم، وبيان هداياته في العالمين، ومعالجة لقضايا واقعنا على ضوء توجيهات الذكر الحكيم.
المقصد الأول
تحقيق التوحيد والإخلاص لله تعالى
فالله سبحانه لم يأمر إبراهيم – عليه السلام – ببناء (البيت) إلّا لتحقيق توحيده، وذلك يظهر جليًّا من اقتران الأمر ببناء البيت بالنهي عن الشـرك والتخلّص من مظاهره، حيث قال تعالى: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشـْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ](الحج: 26-27).
يؤكد سيد قطب أن هذا البيت أقيم لأجل تحقيق التوحيد والإخلاص لله سبحانه، فيقول – رحمه الله -: “ثم يرجع إلى نشأة هذا البيت الحرام، الذي يستبدّ به المشـركون، يعبدون فيه الأصنام، ويمنعون منه الموحدين بالله، المتطهرين من الشـرك.. يرجع إلى نشأته على يد إبراهيم – عليه السلام – بتوجيه ربّه وإرشاده، ويرجع إلى القاعدة التي أقيم عليها، وهي قاعدة التوحيد، وإلى الغرض من إقامته، وهو عبادة الله الواحد، وتخصيصه للطائفين به، والقائمين لله فيه: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]..
فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة؛ عرّف الله مكانه لإبراهيم – عليه السلام –، وملّكه أمره، ليقيمه على هذا الأساس: [أَنْ لَا تُشْـرِكْ بِي شَيْئًا]، فهو بيت الله وحده دون سواه.
ثم أمر الله سبحانه إبراهيم – عليه السلام – ؛ باني البيت، إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلّف به، أن يؤذّن في الناس بالحج؛ وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعدَهُ أن يلبّي الناس دعوته، فيتقاطرون على البيت من كل فجّ، رجالاً يسعون على أقدامهم، وركوباً [عَلَى كُلِّ ضَامِر] جهدَهُ السير، فضمر من الجهد والجوع: [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ].
وما يزال وعد الله سبحانه يتحقق منذ إبراهيم – عليه السلام –، إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوي إلى البيت الحرام؛ وترّف إلى رؤيته، والطواف به.. الغنيُّ القادر الذي يجد الظهر يركبه، ووسيلة الركوب المختلفة تنقله؛ والفقيرُ المعدم الذي لا يجد إلا قدميه.. وعشـرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة، تلبية لدعوة الله التي أذّن بها إبراهيم – عليه السلام – منذ آلاف الأعوام..”([1]).
وأمّا عن تحقيق الإخلاص، فهو أعظم ثمرات التوحيد، وقد نبّه الله سبحانه عباده لضرورة تحقيقه في الحج، فقال: [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ](البقرة: 196).
يقول الشيخ القاسمي – رحمه الله -: “أي: أدّوهما تامَّين، بمناسكهما المشـروعة، لوجه الله تعالى”([2]).. ويقول سيد قطب – رحمه الله -، وهو يبيّن كيف يكون تحقيق التوحيد والإخلاص لله، وفق الآية: “وأول ما يلاحظ في بناء الآية، هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشـريع، وتقسيم الفقرات في الآية، لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه، ومجيء الاستدراكات على كل حكم، قبل الانتقال إلى الحكم التالي.. ثم ربط هذا كلّه في النهاية بالتقوى، ومخافة الله تعالى..
والفقرة الأولى في الآية تتضمن الأمر بإتمام أعمال الحج والعمرة إطلاقاً، متى بدأ الحاج أو المعتمر فأهلّ بعمرة أو بحج أو بهما معاً؛ وتجريد التوجّه بهما لله: [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ].. وقد فهم بعض المفسـّرين من هذا الأمر أنه إنشاء لفريضة الحج، وفهم بعضهم أنه الأمر بإتمامه متى بدأ، وهذا هو الأظهر، فالعمرة ليست فريضة عند الجميع، ومع هذا ورد الأمر هنا بإتمامها كالحج، ممّا يدلّ على أن المقصود هو الأمر بالإتمام، لا إنشاء الفريضة بهذا النص. ويؤخذ من هذا الأمر كذلك أن العمرة، ولو أنها ابتداء ليست واجبة، إلا أنه متى أهلّ بها المعتمر، فإن إتمامها يصبح واجباً. والعمرة كالحج في شعائرها، ما عدا الوقوف بعرفة. والأشهرُ أنها تؤدّى على مدار العام، وليست موقوتة بأشهر معلومات؛ كالحج”([3]).
يقول الله سبحانه وتعالى: [وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشـْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ](الحج: 30-31).. إن المتأمل في سياق هذه الآيات، يجد رابطاً بين تعظيم حرمات الله، وبين اجتناب الشـرك والرجس من الأوثان، وكل ما يعبد من دون الله تعالى. ولمّا كان المشـركون يحرّمون بعض الأنعام؛ كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، فيجعلون لها حرمة، وهي ليست من حرمات الله، بينما هم يعتدون على حرمات الله، فإن النصّ يتحدّث عن حلّ الأنعام، إلا ما حرّم الله منها؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به: [وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ].. وذلك كي لا تكون هنالك حرمات إلا لله؛ وألّا يشـرّع أحد إلا بإذن الله؛ ولا يحكم إلا بشريعة الله.
وبمناسبة حلّ الأنعام يأمر باجتناب الرجس من الأوثان، وقد كان المشـركون يذبحون عليها وهي رجس، والرجس دنس النفس، والشـرك بالله دنس يصيب الضمير ويلوث القلوب، ويشوب نقاءها وطهارتها، كما تشوب النجاسة الثوب والمكان.
ولأن الشـرك افتراء على الله وزور، فإنه يحذّر من قول الزور كافة: [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]..
إنما يريد الله من الناس أن يميلوا عن الشـرك كله، وأن يجتنبوا الزور كله، وأن يستقيموا على التوحيد الصادق الخالص: [حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ].. ثم يرسم النص مشهداً عنيفاً يصوّر حال من تزلّ قدماه عن أفق التوحيد، فيهوي إلى درك الشـرك، فإذا هو ضائع ذاهب بدداً، كأن لم يكن من قبل أبداً: [وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ].
إنه مشهد الهويّ من شاهق [فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ]، وفي مثل لمح البصـر يتمزّق [فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ]، أو تقذف به الريح بعيداً بعيداً عن الأنظار: [أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ]، في هوة ليس لها قرار! والملحوظ هو سرعة الحركة، مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بـ(الفاء)، وفي المنظر بسرعة الاختفاء.. على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير.
وهي صورة صادقة لحال من يشرك بالله، فيهوي من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء والانطواء، إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها؛ قاعدة التوحيد، ويفقد المستقر الآمن الذي يثوب إليه؛ فتتخطفه الأهواء تخطّف الجوارح، وتتفاذفه الأوهام تقاذف الرياح، وهو لا يمسك بالعروة الوثقى، ولا يستقر على القاعدة الثابتة، التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش فيه([4]).
المقصد الثاني
تحقيق معنى العبودية والانقياد لله
وهذا يظهر بوضوح عند استجابة الحاج للقيام بهذه الفريضة، وارتداء لباس الإحرام، والطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، فهو يقوم بهذه الأعمال منقادًا لأمر الله سبحانه، ومتأسيًا برسول الله ﷺ، وإن غابت عنه الحكم والمقاصد من القيام بهذا الأفعال، إلّا أنه لم يغب عنه أنه عبد منقاد لأمر سيّده.
قال الله تعالى: [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ](الأنعام: 162)، وهو خطاب دالٌّ على محضِ العبودية، وعلى محض الذلة لله الواحد القهار. هذه الآية المعبِّرة أيما تعبير عن أصدق ما يجده العبد الذي ذاق حلاوةَ الإيمان حقًّا وصدقًا، وتتجلَّى مظاهر هذه العبودية في الإذعان لأمر الله في أداء المناسك؛ وهذا ما بيّنه سيد قطب إذ يقول – رحمه الله-: “إنه التجرّد الكامل لله، بكل خالجة في القلب، وبكل حركة في الحياة، وبالصلاة والاعتكاف، وبالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات، وما وراءه.. إنها تسبيحة (التوحيد) المطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات، وتخلّصها لله وحده، لله [رَبِّ الْعَالَمِينَ]؛ القوّام، المهيمن، المتصـرّف، المرّبي، الموجّه، الحاكم للعالمين.. في (إسلام) كامل لا يستبقي في النفس، ولا في الحياة، بقية لا يعبّدها لله، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضمير، ولا في الواقع.. [وَبِذلِكَ أُمِرْتُ].. فسمعت وأطعت: [وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ]..”([5]).
والربط بين العقيدة والشعائر واضح في الآيات، ولنستمع إلى ما يقول سيد قطب – رحمه الله -: “هكذا يربط بين العقيدة والشعائر، فهي منبثقة من العقيدة، وقائمة عليها. والشعائر تعبير عن هذه العقيدة، ورمز لها. والمهم أن تصطبغ الحياة كلها، ويصطبغ نشاطها، بتلك الصبغة، فتتوحد الطاقة، ويتوحد الاتجاه، ولا تتمزق النفس الإنسانية في شتى الاتجاهات.
ويستطرد السياق في تقرير هذا المعنى، وتوكيده، وهو يبيّن شعائر الحج بنحر البُدن: [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ](الحج: 36-37).
ويخصّ البُدن بالذكر لأنها أعظم الهدي، فيقرّر أن الله سبحانه أراد بها الخير لهم، فجعل فيها خيراً وهي حيّة تركب وتحلب، وهي ذبيحة تهدى وتطعم، فجزاء ما جعلها الله خيراً لهم أن يذكروا اسم الله عليها، ويتوجهوا بها إليه، وهي تهيّأ للنحر بصفّ أقدامها: [فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ].. والإبل تنحر قائمةً على ثلاث، معقولة الرجل الرابعة [فَإِذَا وَجَبَتْ]، واطمأنّت على الأرض بموتها، أكل منها أصحابها استحباباً، وأطعموا منها الفقير القانع الذي لا يسأل، والفقير المعتر الذي يتعرض للسؤال. فلهذا سخّرها الله سبحانه للناس ليشكروه على ما قدّر لهم فيها من الخير؛ حية وذبيحة: [كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]..
وهم حين يؤمرون بنحرها باسم الله: [لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا].. فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه، إنما تصل إليه تقوى القلوب، وتوجهاتها، لا كما كان مشـركو قريش يلطّخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات، على طريقة الشـرك المنحرفة الغليظة!”([6]).
فهي تخاطب في الناسك خبيئة قلبه، وتستثير ورعه، ألّا يرتكب محظوراً، ولا يفرّط في هَدْيٍ، أو فديةٍ، أو كفّارةٍ، وألاَّ يقع في رفثٍ، أو فسوقٍ، أو جدالٍ، أو إثمٍ في الحج. وإلى جانب ذلك، تشعره أن جميع قُرُباته – مهما دقّت – معلومة، محفوظة، مشكورة: [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ](البقرة: 197).
إن هذه الرقابة الذاتية الصارمة التي يلتزم بها الحاجّ أياماً معدودات، يمكن أن تتحول إلى منهج، وسلوك مستديم، يرجع به الحاج الموفّق إلى وطنه، وكأنما تنبّه من غفلة، أو استيقظ من رقاد.
وقال الله تعالى: [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشـَرُونَ](البقرة: 203).
بعد أن نبّه الله سبحانه إلى ذكر الله ذكراً دائماً متّصلاً، بعد أداء مناسك الحج، حتى يظل المؤمن على هذا الطريق الذي استقام عليه وهو يؤدّي هذه المناسك، بعد هذا نبّه الله سبحانه إلى ذكره ذكراً خاصّاً، في أيام معدودات، موصولة بأيام الحج مباشرة، وهي أيام التشريق الثلاثة.
والحكمة في الأمر بذكر الله هنا في أيام معدودات، لا معلومات علماً محدداً، هي السماح بشـيء من الحرية في تقديم وقتها أو تأخيره، حسب ظروف الحاجّ، التي تتحكم فيها كثير من الأمور، في غربته تلك عن وطنه، وفي انقطاعه عن أهله وولده، وفي ارتباطاته بالجماعة التي صحبها في مجيئه، وسيصحبها في عودته.. فكل هذه، وكثير غيرها، أمور تفرض على الحاج ألا يتقيد بزمن، قيداً ملزماً، لا يستطيع التصـرّف فيه.. وإنما سمّيت معلومات؛ لأنها عند الناس كلهم معلومة للذبح، فيتوخى المساكين القصد فيها، فيُعطون.
وعن الأيام المعدودات، وما فيها من المشاعر الإيمانية، يقول سيد قطب – رحمه الله -: “أيام الذكر هي – في الأرجح – يوم عرفة، ويوم النحر، والتشـريق بعده.. قال ابن عباس: (الأيام المعدودات أيام التشـريق)([7]).. وقال عكرمة: [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ]، يعني التكبير في أيام التشـريق، بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر. وفي الحديث المتقدم عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي: (وأيام منى ثلاثة؛ فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخّر فلا إثم عليه). وأيام عرفة والنحر والتشـريق، كلها صالحة للذكر، اليومان الأولان منها أو اليومان الأخيران، بشرط التقوى: ذلك [لِمَنِ اتَّقَى]..
ثم يذكّرهم بمشهد الحشـر، بمناسبة مشهد الحج؛ وهو يستجيش في قلوبهم مشاعر التقوى أمام ذلك المشهد المخيف: [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]..
وهكذا، نجد في هذه الآيات كيف جعل الإسلام الحج فريضة إسلامية؛ وكيف خلعها من جذورها الجاهلية؛ وربطها بعروة الإسلام؛ وشدّها إلى محوره؛ وظلّلها بالتصوّرات الإسلامية؛ ونقّاها من الشوائب والرواسب.. وهذه هي طريقة الإسلام في كل ما رأى أن يستبقيه من عادة أو شعيرة.. إنها لم تعد هي التي كانت في الجاهلية؛ إنما عادت قطعة جديدة متناسقة في الثوب الجديد.. إنها لم تعد تقليداً عربياً، إنما عادت عبادة إسلامية.. فالإسلام، والإسلام وحده، هو الذي يبقى، وهو الذي يُرعى..”([8]).
المقصد الثالث
تنقية النفس من الأخلاق المذمومة
الحج سفر، والسفر قطعة من عذاب؛ وفي الحج من بُعد الشُّقة، وزيادة الكلفة، وحصول الازدحام، ما يتطّلب مستوىً خلقياً رفيعاً، من الصبر والاحتمال، تدفع الضجر، وأريحية بالغة، تتسامى عن الأثرة، وتحمل على الإيثار والصفح، ومجاهدةً غالبةً للنفس الأمّارة، تهزم الشهوات وحظوظ النفس.. لذلك نهى اللهُ سبحانه الحاجّ عن الفحش والسباب واللغو والجدال والمماراة، فقال: [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ](البقرة: 197)، وذلك تعظيمًا لفريضة الحج من جهة، وليعتاد المسلم على الابتعاد عن مثل هذه الأخلاق المذمومة بعد الحج، من جهة أخرى؛ لأنها مذمومة في كلّ زمان ومكان..
وعن كيفية تنقية النفس من الأخلاق المذمومة في الحج، يقول سيد قطب – رحمه الله: “فمن فرض الحج في هذه الأشهر المعلومات، أي أوجب على نفسه إتمامه بالإحرام، [فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ].. والرفث هنا ذكر الجماع، ودواعيه؛ إمّا إطلاقاً، وإمّا في حضـرة النساء. والجدال: المناقشة والمشادة حتى يُغضب الرجل صاحبه. والفسوق: إتيان المعاصي؛ كبرت أم صغرت.. والنهي عنها ينتهي إلى ترك كل ما ينافي حالة التحرّج والتجرّد لله في هذه الفترة، والارتفاع على دواعي الأرض، والرياضة الروحية بالتعلّق بالله دون سواه، والتأدّب الواجب في بيته الحرام لمن قصد إليه متجرّداً حتى من مخيط الثياب!
وبعد النهي عن فعل القبيح، يحبّب إليهم فعل الجميل: [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ].. ويكفي في حسّ المؤمن أن يتذكّر أن الله سبحانه يعلم ما يفعله من خير، ويطّلع عليه، ليكون هذا حافزاً على فعل الخير، ليراه الله منه ويعلمه.. وهذا وحده جزاء.. قبل الجزاء..
ثم يدعوهم إلى التزوّد في رحلة الحج.. زاد الجسد، وزاد الروح.. فقد ورد أن جماعة من أهل اليمن كانوا يخرجون من ديارهم للحج ليس معهم زاد، يقولون: نحجّ بيت الله ولا يطعمنا؟! وهذا القول، فوق مخالفته لطبيعة الإسلام التي تأمر باتخاذ العدّة الواقعية، في الوقت الذي يتوجّه فيه القلب إلى الله سبحانه، ويعتمد عليه كل الاعتماد، يحمل كذلك رائحة عدم التحرّج في جانب الحديث عن الله، ورائحة الامتنان على الله بأنهم يحجّون بيته، فعليه أن يطعمهم!!”([9]).
المقصد الرابع
التنبيه على أهمية الاستعداد للآخرة
الحج مظهر مصغّر ليوم الحشـر والعرض على الله تعالى، ولذا تفيض في نفس الحاج بواعث الشوق للقاء الله، ويدفعه للعمل الصالح، وينشط في مجالات الخير، وتنهزم بواعث المعصية في نفسه، ويبقى ذكر الموت وما بعده بين عينيه، وفي هذا من الآثار العظيمة على السلوك والأخلاق، ما يلمسه كل حاج مع نفسه، ومع الآخرين.
فقد نبّه سبحانه وتعالى الحاج الذي يتزوّد عند سفره بما يكفيه من زاد الدنيا ليصل إلى وجهته سالمًا، ألّا ينسـى التزوّد للدار الآخرة، وخير ما يتزوّد به في سفره للدار الآخرة تقواه سبحانه، وذلك بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي والسيئات، حيث قال الله تعالى: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ](البقرة: 197).
ومن سُبُل تحقيق التقوى في الحج: تعظيمُ شعائره وحُرُماته؛ فتعظيمُ شعائر الله سبحانه أَمارةٌ على قرب المؤمن من خالقه، ودليلٌ ساطع على تقواه، وذلك مقصدٌ عظيم من مقاصد الحج.. ومن ثم جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه، مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام دائم الإيحاء: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ].. والتقوى زاد القلوب والأرواح، منه تقتات، وبه تتقوى وترّف وتشـرق، وعليه تستند في الوصول والنجاة. وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بهذا الزاد([10])..
فالحج حدث عظيم في حياة المسلم، يعلّق عليه كثير من المسلمين آمالهم، ويرونه مفرق طريق، وإيذاناً باستئناف حياة جديدة يستشـرفون فيها المستقبل بتفاؤل وعزم على الاستقامة، وهجرٍ لحياة التفريط والمعاصي. لا غرو؛ فالحج أحد المكفّرات الكبار التي تجُبُّ ما قبلها.
يقول الله سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ](الأنفال: 29).. وما يكتسبه الحاج في أداء مناسكه هو زاده للطريق، حيث يقول سيد قطب – رحمه الله – في تفسيره: “هذا هو الزاد، وهذه هي عدة الطريق.. زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها، وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي، وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مدّ البصـر؛ فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة.. ثم هو زاد المغفرة للخطايا.. الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار.. وزاد الأمل في فضل الله العظيم، يوم تنفد الأزواد، وتقصر الأعمال.
إن الأمور تظل متشابكة في الحسّ والعقل؛ والطرق تظلّ متشابكة في النظر والفكر؛ والباطل يظلّ متلبساً بالحق عند مفارق الطريق! وتظلّ الحجّة تُفحم، ولكن لا تُقنع. وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل. ويظل الجدل عبثاً، والمناقشة جهداً ضائعاً.. ذلك ما لم تكن هي التقوى.. فإذا كانت، استنار العقل، ووضح الحق، وتكشّف الطريق، واطمأنّ القلب، واستراح الضمير، واستقرّت القدم وثبتت على الطريق!
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة.. إن هناك اصطلاحاً من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه؛ والذي خلقت به السماوات والأرض.. ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة.. الهوى هو الذي ينشـر الغبش، ويحجب الرؤية، ويُعمي المسالك، ويخفي الدروب.. والهوى لا تدفعه الحجّة، إنما تدفعه التقوى.. تدفعه مخافة الله، ومراقبته في السـرّ والعلن.. ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة، ويرفع اللبس، ويكشف الطريق.. وهو أمر لا يقدّر بثمن.. ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا، ومغفرة الذنوب، ثم يضيف إليهما [الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]..
ألا إنه العطاء العميم، الذي لا يعطيه إلا الرب (الكريم)، ذو الفضل العظيم!”([11]).
المقصد الخامس
الحثّ على تعظيم شعائر الله
إن من علامات الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة، أن يكون الحاج معظّماً حرمات الله وشعائره، غير منتهكٍ شيئاً منها بقول أو بفعل، وهو أيضاً من دلائل التقوى والإخبات لله. لذلك قال الله تعالى؛ في ذيل الحديث عن أعمال الحج: [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ](الحج: 32).. وفي تفسير هذه الآية يقول سيد قطب – رحمه الله-: “يعود السياق من تعظيم حرمات الله، باتّقائها، والتحرّج من المساس بها.. إلى تعظيم شعائر الله، وهي ذبائح الحج؛ باستسمانها، وغلاء أثمانها: [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ]. ويربط بين الهدي، الذي ينحره الحاج، وتقوى القلوب؛ إذ إن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره. وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجّه إلى رب البيت وطاعته. وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم – عليه السلام – وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوجّه إلى الله منذ نشأة هذه الأمّة المسلمة، فهي والدعاء والصلاة سواء.
وهذه الأنعام التي تتخذ هدياً ينحر في نهاية أيام الإحرام، يجوز لصاحبها الانتفاع بها، إن كان في حاجة إليها يركبها، أو في حاجة إلى ألبانها يشـربها، حتى تبلغ محلّها، وهو البيت العتيق، ثم تنحر هناك ليأكل منها، ويطعم البائس الفقير”([12]).
يقول الله تعالى: [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ](البقرة: 158)، والآية حكم قاطع بأن هذين المكانين من أماكن الله، التي اختصّها بأن يتعبّد له فيها العابدون، ويتقرّب إليه عندها المتقرّبون!
وقد جعل الله السعي بينهما منسكاً من مناسك الحج، وفعلاً من الأفعال التي تتم بها هذه الفريضة! وليس يعقل بحال أن يلمّ بمن يؤدّي هذا المنسك، حاجّاً أو معتمراً، غير نفحات الرحمة والرضوان.. يقول سيد قطب – رحمه الله -: “هناك عدة روايات عن سبب نزول هذه الآية، أقربها إلى المنطق النفسـي المستفاد من طبيعة التصوّر الذي أنشأه الإسلام في نفوس المجموعة السابقة إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار، الرواية التي تقول: إن بعض المسلمين تحرّجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية، وأنه كان فوقهما صنمان، هما: أساف ونائلة([13])، فكره المسلمون أن يطوفوا كما كانوا يطوفون([14]) في الجاهلية([15]).
قال البخاري – رحمه الله -: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عاصم بن سليمان: قال سألت أنساً عن الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلمّا جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله تعالى: [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ].. وقال الشعبي: كان أساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما، فتحرّجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية([16]).
ولم يرد تحديد لتاريخ نزول هذه الآية، والأرجح أنها نزلت متأخرة عن الآيات الخاصة بتحويل القبلة. ومع أن مكة قد أصبحت دار حرب بالنسبة للمسلمين، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين كانوا يتمكنون أفراداً من الحج ومن العمرة، وهؤلاء هم الذين تحرّجوا من الطواف بين الصفا والمروة.. وكان هذا التحرّج ثمرة التعليم الطويل، ووضوح التصوّر الإيماني في نفوسهم، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرّزون ويتوجّسون من كل أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية، إذ أصبحت نفوسهم من الحساسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كل ما كان في الجاهلية، وتتوجّس أن يكون منهياً عنه في الإسلام، الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة..
كانت الدعوة الجديدة قد هزّت أرواحهم هزّاً، وتغلغلت فيها إلى الأعماق، فأحدثت فيها انقلاباً نفسياً وشعورياً كاملاً، حتى لينظرون بجفوة وتحرّز إلى ماضيهم في الجاهلية؛ ويحسّون أن هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالاً كاملاً فلم يعد منهم، ولم يعودوا منه؛ وعاد دنساً ورجساً يتحرّزون من الإلمام به…
وهنا نجد مثالاً من هذا المنهج التربوي العميق، إذ يبدأ القرآن بتقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله: [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ].. فإذا اطّوف بهما مطّوف، فإنما يؤدّي شعيرة من شعائر الله؛ وإنما يقصد بالطواف بينهما إلى الله. ولقد انقطع ما بين هذا الطواف الجديد وطواف الجاهلية الموروث؛ وتعلّق الأمر ذبالله، لا بأساف ونائلة وغيرهما من أصنام الجاهلية!”([17]).
المقصد السادس
الموازنة بين المصالح الدنيوية والأخروية
فالموازنة بين المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية من محاسن الإسلام ومقاصده، وذلك يظهر جليًّا في كثير من الشـرائع والعبادات، ومن ذلك عبادة الحج. فقد أباح الله للحاجّ أن يجمع بين أداء المناسك وبين التجارة والتكسّب، بشـرط أن لا تؤثِّر على المقصد الأصلي، ألَا وهو العبادة، فقال تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ](البقرة: 198)، وقال أيضًا: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ](الحج: 28).. وفي حكم مزاولة التجارة، أو العمل بأجر، بالنسبة للحاج، يقول سيد قطب – رحمه الله-: “ثم يمضـي في بيان أحكام الحج وشعائره، فيبيّن حكم مزاولة التجارة، أو العمل بأجر، بالنسبة للحاج. وحكم الإفاضة، ومكانها، وما يجب من الذكر والاستغفار بعدها: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ]..
روى البخاري، بإسناده، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتّجروا في الموسم، فنزلت: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ]، في مواسم الحج([18]).
وروى أبو داود، بإسناده، من طريق آخر، إلى ابن عباس – رضي الله عنهما -، قال: كانوا يتّقون البيوع والتجارة في الموسم والحج، يقولون: أيام ذكر، فأنزل الله: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ]([19]).
وفي رواية عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر – رضي الله عنهما -: إنّا أناس نُكْري([20])، فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون الْمُعَرَّفَ([21])، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي ﷺ فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ]([22]).
وفي رواية عن أبي صالح مولى عمر (رواها ابن جرير)، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، كنتم تتّجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟([23]).
وهذا التحرّج الذي تذكره الروايتان الأوليان من التجارة، والتحرّج الذي تذكره الرواية الثالثة عن الكراء، أو العمل بأجر، في الحج.. هو طرف من ذلك التحرّج الذي أنشأه الإسلام في النفوس من كل ما كان سائغاً في الجاهلية، وانتظار رأي الإسلام فيه قبل الإقدام عليه. وهي الحالة التي تحدّثنا عنها في أوائل هذا الجزء، عند الكلام عن التحرّج من الطواف بالصفا والمروة.
وقد نزلت إباحة البيع والشـراء والكراء في الحج، وسمّاها القرآن: ابتغاءً من فضل الله: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ]، ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتّجر، وحين يعمل بأجر، وحين يطلب أسباب الرزق: إنه لا يرزق نفسه بعمله، إنما هو يطلب من فضل الله، فيعطيه الله، فأحرى ألا ينسـى هذه الحقيقة؛ وهي أنه يبتغي من فضل الله، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب، وحين يقبض، وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق. ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه، وهو يبتغي الرزق، فهو إذن في حالة عبادة لله، لا تتنافى مع عبادة الحج، في الاتجاه إلى الله.. ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن، أطلقه يعمل وينشط كما يشاء.. وكل حركة منه عبادة في هذا المقام”([24]).
والمنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام، كثيرة، متنوعة، تختلف حظوظ الناس منها..
فهناك منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، بل الحجّ نفسه هو صورة مصغرة للحياة الآخرة، التي تبدأ من الموت، ثم البعث، والحشـر، والحساب، والجزاء.. وعن الموازنة بين المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية في الحج، يقول سيد قطب – رحمه الله -: “ويقف السياق عند بعض معالم الحج، وغاياته: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ].. والمنافع التي يشهدها الحجيج كثيرة، فالحج موسم ومؤتمر، الحج موسم تجارة، وموسم عبادة. والحج مؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون. وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة.. أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء، من أطراف الأرض؛ ويقدم الحجيج من كل فجّ، ومن كل قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرّق في أرجاء الأرض، في شتى المواسم.. يتجمّع كلّه في البلد الحرام في موسم واحد.. فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج؛ وسوق عالمية تقام في كل عام.
وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، وهي ترفّ حول هذا البيت، وتستروح الذكريات التي تحوم عليه، وترفّ كالأطياف من قريب، ومن بعيد…
والحجّ، بعد ذلك كله، مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة.. مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن، منذ أبيهم إبراهيم الخليل: [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ]، ويجدون محورهم الذي يشدّهم جميعاً إليه: هذه القبلة التي يتوجّهون إليها جميعاً، ويلتقون عليها جميعاً.. ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها.. راية العقيدة الواحدة، التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان.. ويجدون قوّتهم التي قد ينسونها حيناً.. قوّة التجمّع والتوحّد والترابط الذي يضمّ الملايين.. الملايين التي لا يقف لها أحد، لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد.. راية العقيدة والتوحيد.
وهو مؤتمر للتعارف والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل، مرّة في كل عام، في ظلّ الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة، في أنسب مكان، وأنسب جو، وأنسب زمان.. فذلك إذ يقول الله تعالى: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ].. كلّ جيل بحسب ظروفه، وحاجاته، وتجاربه، ومقتضياته.. وذلك بعض ما أراده الله بالحج، يوم أن فرضه على المسلمين، وأمر إبراهيم – عليه السلام – أن يؤذّن به في الناس”([25]).
إن موسم الحج فرصة لالتقاء مختلف الشعوب الإسلامية لتحقيق منافع مشتركة، ومصالح متبادلة، ومنها المنافع التجارية، والمصالح الاقتصادية، دون أن يغضّ ذلك من قدر النُّسُك؛ فقد رفع الله تعالى الجُناح عن الأمّة في مزاولة هذه المناشط الحيوية التي تعوّد عليها بالقوّة والخير.
المقصد السابع
ربط قلب المسلم بذكر الله
فالذكر مِن أحبّ العبادات إلى الله تعالى، وأعظمها أجرًا، وقد ربط الله به كثيرًا من العبادات، ومن أبرزها عبادة الحج، ويظهر ذلك واضحًا في ربط القرآن الحديث عن مناسك الحج بذكر الله في كثير من المواضع، حيث قال: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا](البقرة: 198-200).
وفي تفسير هذه الآيات يقول سيد قطب – رحمه الله -: “إنما هو يطلب من فضل الله، فيعطيه الله، فأحرى ألا ينسـى هذه الحقيقة؛ وهي أنه يبتغي من فضل الله، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب، وحين يقبض، وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق. ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه، وهو يبتغي الرزق، فهو إذن في حالة عبادة لله، لا تتنافى مع عبادة الحج، في الاتّجاه إلى الله.. ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن، أطلقه يعمل وينشط كما يشاء.. وكل حركة منه عبادة في هذا المقام.
لهذا يجعل الحديث عن طلب الرزق جزءاً من آية تتحدث عن بقية شعائر الحج، فتذكر الإفاضة، والذكر عند المشعر الحرام: [فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا].. والوقوف بعرفة عمدة أفعال الحج.. روى أصحاب السنن، بإسناد صحيح، عن الثوري، عن بكير، عن عطاء، عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (الحج عرفات – ثلاثاً – فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة، فمن تعجّل في يومين، فلا إثم عليه، ومن تأخر، فلا إثم عليه)([26]).
إن من آثار الحج في حياة المسلم الذي يؤدّي فريضته، أنه يقوّي صلة المحبة بينه وبين خالقه، وذلك عن طريق شعار الحج المعلن: (لبيك اللهم لبيك)، فيها يجدّد المسلم ذكر الله في مواقع ومواقف متعددة، يصحب ذلك خشوع وخضوع للخالق البارئ سبحانه وتعالى. والمسلم بهذه التلبية يطرح كل شواغل الحياة وصوارفها، التي تمنعه من القرب من خالقه؛ طاعة وامتثالاً وخشوعاً وخضوعاً وتذللاً وإجلالاً – لبيك اللهم، لبيك لا شريك لك لبيك –
ووقت الوقوف بعرفة من الزوال (الظهر) يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، إلى طلوع الفجر من يوم النحر.. وهناك قول ذهب إليه الإمام أحمد، وهو أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة، استناداً إلى حديث رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وصححه الترمذي، عن الشعبي، عن عروة بن مضـرس بن حارثة بن لام الطائي، قال: أتيت رسول الله ﷺ بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبل طي، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسـي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله ﷺ: (من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضـى تفثه)([27]).
والذي ورد عن فعل رسول الله ﷺ أنه دفع بعد غروب شمس يوم عرفة. وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله، في صحيح مسلم: (فلم يزل واقفاً، يعني بعرفة، حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله ﷺ وقد شنق للقصواء الزمامَ، حتى إن رأسها ليصيب مورك([28]) رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة، كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد، وإقامتين، ولم يسبّح بينهما شيئاً، ثم اضطجع، حتى طلع الفجر، فصلّى الفجر حين تبيّن له الصبح، بأذان وإقامة. ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله، وكبـّره، وهلّله، ووحّده، فلم يزل واقفاً، حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس)([29]).
وهذا الذي فعله رسول الله ﷺ هو الذي تشير إليه الآية: [فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ].. والمشعر الحرام هو المزدلفة. والقرآن هنا يأمر بذكر الله عنده، بعد الإفاضة من عرفات، ثم يذكّر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم؛ وهو مظهر الشكر على هذه الهداية، ويذكّرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم: [وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ]..
والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها.. لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال.. ضلال في التصوّر.. مظهره عبادة الأصنام والجنّ والملائكة، ونسبة بنوّة الملائكة إلى الله، ونسبة الصهر إلى الله مع الجنّ.. إلى آخر هذه التصوّرات السخيفة المتهافتة المضطربة، التي كانت تنشئ بدورها اضطراباً في العبادات والشعائر والسلوك: من تحريم ظهور بعض الأنعام، أو لحومها، بلا مبرر، إلا تصوّر علاقات بينها وبين شتى الآلهة؛ ومن نذر بعض أولادهم للآلهة، وإشراك الجنّ فيها؛ ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصوّرات الاعتقادية المضطربة.. وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية.. تمثّله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ]، إلى إزالتها، كما سيجيئ. وتمثّله تلك الحروب، والمشاحنات القبلية، التي لم تكن تجعل من العرب أمّة يحسب لها حساب في العالم الدولي.. وتمثّله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية، والعلاقات الزوجية، وعلاقات الأسرة، بصفة عامة.. وتمثّله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع، بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع.. وتمثّلها حياة العرب، بصفة عامة، ووضعهم الإنساني المتخلف، الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام.
وحين كانوا يسمعون: [وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ].. كانت ولا شك تتواكب على خيالهم، وذاكرتهم، ومشاعرهم، صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة، التي كانت تطبع تاريخهم كله؛ ثم يتلفّتون إلى أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه الإسلام، والذي هداهم الله إليه بهذا الدين، فيدركون عمق هذه الحقيقة، وأصالتها، في وجودهم كله، بلا جدال..
وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمّة، ومن كل جيل.. من هم بغير الإسلام؟ وما هم بغير هذه العقيدة؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم، ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب، إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم. ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقاً، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي.. وإن البشـرية كلها لتتيه في جاهلية عمياء، ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي.. لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشـرية التي تعج بها الأرض في كل مكان، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي، الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال!
وحين يطلّ الإنسان من قمّة التصوّر الإسلامي، والمنهج الإسلامي، على البشـرية كلّها، في جميع تصوراتها، وجميع مناهجها، وجميع نظمها، بما في ذلك تصوّرات أكبر فلاسفتها؛ قديماً وحديثاً، ومذاهب أكبر مفكريها؛ قديماً وحديثاً، حين يطلّ الإنسان من تلك القمّة الشامخة، يدركه العجب من انشغال هذه البشـرية بما هي فيه من عبث، ومن عنت، ومن شقوة، ومن ضآلة، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدّعي، فيما يدّعي، أنه لم يعد في حاجة إلى إله! أو لم يعد – على الأقل، كما يزعم – في حاجة لاتّباع شريعة إله، ومنهج إله!
فهذا هو الذي يذكّر الله به المسلمين، وهو يمتنّ عليهم بنعمته الكبرى: [وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ]..”([30]).
فمن اعتاد على ذكر الله تعالى في الطواف، وفي السعي، وعند رمي الجمار، وعند الوقوف بعرفة، وعند ذبح الهدي، وفي المشاهد جميعًا، فمن الصعب عليه أن يجفّ لسانه عنه بعد الحج، وقد ذاق حلاوة الذِّكْر، وتعلّق قلبه بالمذكور.
المقصد الثامن
التأكيد على روح المساواة بين الناس
الإسلام دين المساواة، وهذا يظهر واضحًا في اجتماع الناس للصلاة، واجتماعهم للحج، حيث يقف الغني بجوار الفقير، والعربي بجوار العجمي، في صعيد واحد، بثياب واحدة، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية. قال تعالى: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ](البقرة: 199).
يقول صاحب (الظلال)، في تفسير هذه الآية: “قِفُوا معهم حيث وَقَفوا، وانصـرِفوا معهم حيث انصـرَفوا، إنّ الإسلام لا يعرف نَسبًا، ولا يعرف طبقةً، إنّ الناس كلّهم أمّة واحدة، سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولقد كلَّفهم الإسلام أن يتجرّدوا في الحج من كلّ ما يميّزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت الله إخوانًا متساوِين، فلا يتجرّدوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب… هكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصوّر الذي هدى البشـرية إليه؛ أساس المساواة، وأساس الأمّة الواحدة، التي لا تفرّقها طبقة، ولا يفرّقها جنس، ولا تفرّقها لغة، ولا تفرّقها سمة من سمات الأرض جميعًا، وهكذا يردُّهم إلى استغفار الله من كلّ ما يخالف هذا التصوّر النظيف الرفيع”([31]).
ومن ذلك أيضًا أنه سبحانه أمرهم بالانشغال بذكر الله عن التفاخر بالآباء والأجداد، فقال: [فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا](البقرة: 200).
ويبيّن الأستاذ سيد قطب أن ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقاً، وليس التفاخر بالآباء. فالميزان الجديد للقيم البشـرية هو ميزان التقوى، ميزان الاتصال بالله، وذكره، وتقواه. يقول – رحمه الله -: “وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصوّر الذي هدى البشـرية إليه.. أساس المساواة، وأساس الأمّة الواحدة، التي لا تفرّقها طبقة، ولا يفرّقها جنس، ولا تفرّقها لغة، ولا تفرّقها سمة من سمات الأرض جميعاً.. وهكذا يردّهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف هذا التصور النظيف الرفيع.. [فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا].. ولقد سبق أنهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز.. وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب؛ إنما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء، ومعاظمات بالأنساب.. ذلك حين لم يكن للعرب من الاهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات! لم تكن لهم رسالة إنسانية بعد، ينفقون فيها طاقة القول، وطاقة العمل، فرسالتهم الإنسانية الوحيدة هي التي ناطهم بها الإسلام. فأما قبل الإسلام، وبدون الإسلام، فلا رسالة لهم في الأرض، ولا ذكر لهم في السماء.. ومن ثم كانوا ينفقون أيام عكاظ ومجنّة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة.. في المفاخرة بالأنساب، وفي التعاظم بالآباء.. فأما الآن، وقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة، وأنشأ لهم الإسلام تصوّراً جديداً، بعد أن أنشأهم نشأة جديدة.. أما الآن، فيوجّههم القرآن لما هو خير، يوجّههم إلى ذكر الله، بعد قضاء مناسك الحج، بدلاً من ذكر الآباء: [فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا]..
وقوله لهم: [كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا].. لا يفيد أن يذكروا الآباء مع الله، ولكنه يحمل طابع التنديد، ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر والأولى.. يقول لهم: إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله، فاستبدلوا هذا بذاك، بل كونوا أشد ذكراً لله، وأنتم خرجتم إليه متجرّدين من الثياب، فتجرّدوا كذلك من الأنساب.. ويقول لهم: إن ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقاً، وليس هو التفاخر بالآباء.. فالميزان الجديد للقيم البشـرية هو ميزان التقوى، ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه”([32]).
المقصد التاسع
تربية المسلم على الدقّة والانضباط
وذلك يظهر بتحديد المواقيت الزمانية والمكانية للحج، فالمواقيت الزمانية هي الأشهُر التي حدّدها الله سبحانه للذهاب للحج، كما وَقَّت سبحانه وقتًا محددًا للوقوف بعرفة، إذا تجاوزه الحاج بطل حجّه، ووقتًا لرمي الجمار، فقال الله تعالى: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ](البقرة: 197).. هذه الآية أصلٌ من أصول الحج، وفيها فوائد عديدة، وتحتوي على أحكام وآداب متعلِّقة بالحج من جهات مختلفة. لقد استهلَّت الآية بذكر أشهر الحج، التي هي مناسبة لإيقاظ همم المؤمنين للتعرُّف إلى الله، والتعريف به، من حيث هو خالق الكون الذي خلَق كلَّ شيء.. يقول سيد قطب – رحمه الله -: “وظاهر النص أن للحج وقتاً معلوماً، وأن وقته أشهر معلومات.. هي شوال، وذو القعدة، والعشـر الأوائل من ذي الحجة.. وعلى هذا لا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر المعلومات، وإن كان بعض المذاهب يعتبر الإحرام به صحيحاً على مدار السنة، ويخصّص هذه الأشهر المعلومات لأداء شعائر الحج في مواعيدها المعروفة. وقد ذهب إلى هذا الرأي الأئمة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل. وهو مرويّ عن إبراهيم النخعي، والثوري، والليث بن سعد. وذهب إلى الرأي الأول الإمام الشافعي، وهو مرويّ عن ابن عباس، وجابر، وعطاء، وطاووس، ومجاهد.. وهو الأظهر”([33]).
أما عن المواقيت المكانية، فهي الأماكن التي حدّدها النبي ﷺ للإحرام، فإذا مرّ بها الحاج يُشـرع له أن يرتدي ملابس الإحرام، ويمنع من بعض الأشياء التي كانت مباحة قبل الإحرام.
وهذه المواقيت الزمانية والمكانية بمثابة التدريب العملي للمسلم على الدقة والانضباط في جميع أموره بعد الحج.. وفي هذا يقول سيد قطب – رحمه الله -: “إن في النفس الإنسانية ميلاً فطرياً، ناشئاً من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيّب، إلى اتّخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة.. فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ، أو لا تستقر، حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس؛ وبذلك يتمّ التعبير عنها؛ يتمّ في الحسّ، كما تمّ في النفس، فتهدأ حينئذ وتستريح؛ وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغاً كاملاً؛ وتحسّ بالتناسق بين الظاهر والباطن، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل، وجنوحها إلى الظواهر والأشكال، في ذات الأوان.
وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها، فهي لا تؤدّى بمجرّد النيّة، ولا بمجرّد التوجّه الروحي، ولكن هذا التوجه يتّخذ له شكلاً ظاهراً: قياماً، واتجاهاً إلى القبلة، وتكبيراً، وقراءة، وركوعاً وسجوداً في الصلاة، وإحراماً من مكان معيّن، ولباساً معيّناً، وحركة، وسعياً، ودعاء، وتلبية، ونحراً، وحلقاً، في الحج. ونيّة، وامتناعاً عن الطعام والشـراب، والمباشرة، في الصوم.. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلّف بين ظاهر النفس وباطنها، وينسّق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملةً، بطريقة تتفق مع تصوّره الخاص.
ولقد علم الله سبحانه أن الرغبة الفطرية في اتّخاذ أشكال ظاهرة للقوى المضمرة، هي التي حادت بالمنحرفين عن الطريق السليم، فجعلت جماعة من الناس ترمز للقوّة الكبرى برموز محسوسة مجسمة؛ من حجر وشجر، ومن نجوم وشمس وقمر، ومن حيوان وطير وشيء.. حين أعوزهم أن يجدواً متصـرّفاً منسّقاً للتعبير الظاهر عن القوى الخفية.. فجاء الإسلام يلبّي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعيّنة لشعائر العبادة، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصوّر حسّي، وكل تحيّز لجهة، فيتوجّه الفرد إلى قبلة، حين يتوجّه إلى الله سبحانه بكلّيّته؛ بقلبه وحواسّه وجوارحه.. فتتم الوحدة والاتّساق بين كل قوى الإنسان في التوجه إلى الله تعالى، الذي لا يتحيّز في مكان؛ وإنْ يكن الإنسان يتّخذ له قبلة من مكان!
ولم يكن بدّ من تمييز المكان الذي يتّجه إليه المسلم بالصلاة، والعبادة، وتخصيصه كي يتميّز هو، ويتخصّص بتصوّره ومنهجه واتّجاهه.. فهذا التميّز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد؛ كما أنه بدوره ينشئ شعوراً بالامتياز والتفرد.
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبّه بمن دون المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة، كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء. ولم يكن هذا تعصباً، ولا تمسكاً بمجرد شكليات، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة. وهذه البواعث هي التي تفرّق قوماً عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصوّراً عن تصوّر، وضميراً عن ضمير، وخلقاً عن خلق، واتّجاهاً في الحياة كلها عن اتّجاه”([34]).
المقصد العاشر
إشاعة الأمن بين المسلمين
إن الأمن من نعم الله الكبار التي لا تستقيم حياة الناس بدونها، ولا تستقر أمورهم بفقدانها. وإذا فقد الأمن حصل البلاء والفتنة، وحَّل الشقاء والنقمة، وقتلت الأنفس المعصومة، واستبيحت الحرمات، وكسدت التجارات، وبارت السلع.
يقول الله سبحانه وتعالى: [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا](البقرة: 125).. وهذا فضل من الله اختصّ به مكاناً مباركاً، فجعله حرماً آمناً، يأوي إليه الناس، فيجدون في ظلّه السَكن والاطمئنان!.. والمثابة: المرجع، يثوب إليه الناس ويرجعون.. والبيت، هو البيت الحرام بمكة، وقد ذكر معرّفاً هكذا: (البيت)، إشارة إلى أنه واحد البيوت كلّها، وأنه إذا ذكر (البيت) كان هو هذا البيت!.. البيت الحرام!
يبيّن سيد قطب كيف أن العقيدة الإسلامية جعلت البيت الحرام مأوى للمؤمنين؛ يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم، فيقول – رحمه الله -: “إن التصوّر الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل، ولا يعترف بقربى ولا رحم، إذا انبتّت وشيجة العقيدة والعمل، ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل.. وهو يفصل بين جيل من الأمّة الواحدة، وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته، بل يفصل بين الوالـد والولد، والزوج والزوجة، إذا انقطع بينهما حبل العقيدة، فعرب الشـرك شيء، وعرب الإسلام شيء آخر، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة. والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسـى شيء آخر، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة.. إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفاداً.. إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة.. وإن الأمّة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين.. إنما هي مجموعة من المؤمنين، مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم.. وهذا هو التصوّر الإيماني، الذي ينبثق من خلال هذا البيان الربّاني، في كتاب الله الكريم..
[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا].. هذا البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروّعوا المؤمنين، وآذوهم، وفتنوهم عن دينهم، حتى هاجروا من جواره.. لقد أراده الله مثابةً يثوب إليها الناس جميعاً، فلا يروّعهم أحد؛ بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم، فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام”([35]).إن الله تعالى جعل الكعبة، والبيت الحرام، المقام عليها، جعلها موطن إصلاح وهداية ورشاد للناس، حيث جعلها حرماً آمناً، يفيض الأمن منها على كل كائن؛ من إنسان أو حيوان أو نبات.. بل لقد شمل هذا البلد كله؛ الذي أقيم حول الكعبة، واحتمى بحماها، فكان هذا البلد أيضاً حمى لكل من لاذ به، واحتمى فيه، وسكن إليه، استجابةً لدعوة إبراهيم – عليه السلام –: [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً].
فأوّل ما دعا به إبراهيم ربّه، لإسماعيل وذرّيته، في هذا الموطن، هو الأمن: [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً].. إذ كان الأمن هو ضمان الحياة، وسكن النفوس، والقلوب، وأنه لا حياة لإنسان، ولا نظام لمجتمع، إلا في ظل الأمن والسلام..
إن السياق يصوّر إبراهيم – عليه السلام – إلى جوار بيت الله؛ الذي بناه في البلد الذي آل إلى قريش، فإذا بها تكفر فيه بالله، مرتكنةً إلى البيت الذي بناه بانيه لعبادة الله تعالى! فيصوّره في هذا المشهد الضارع الخاشع الذاكر الشاكر، ليردّ الجاحدين إلى الاعتراف، ويردّ الكافرين إلى الشكر، ويردّ الغافلين إلى الذكر، ويردّ الشاردين من أبنائه إلى سيرة أبيهم، لعلهم يقتدون بها ويهتدون.. ويبدأ إبراهيم دعاءه: [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً].. فنعمة الأمن نعمة ماسّة بالإنسان، عظيمة الوقع في حسّه، متعلقة بحرصه على نفسه.
والسياق يذكرها هنا ليذكّر بها سكان ذلك البلد، الذين يستطيلون بالنعمة ولا يشكرونها، وقد استجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم، فجعل البلد آمناً، ولكنهم هم سلكوا غير طريق إبراهيم، فكفروا النعمة، وجعلوا لله أنداداً، وصدّوا عن سبيل الله. ولقد كانت دعوة أبيهم التالية لدعوة الأمن: [وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ](إبراهيم: 35).
ويبدو في دعوة إبراهيم الثانية تسليم إبراهيم المطلق إلى ربّه، والتجاؤه إليه في أخصّ مشاعر قلبه، فهو يدعوه أن يجنّبه عبادة الأصنام؛ هو وبنيه، يستعينه بهذا الدعاء ويستهديه، ثم ليبرز أن هذه نعمة أخرى من نعم الله، وإنها لنعمة أن يخرج القلب من ظلمات الشـرك وجهالاته، إلى نور الإيمان بالله وتوحيده، فيخرج من التيه والحيرة والضلال والشـرود، إلى المعرفة والطمأنينة والاستقرار والهدوء، ويخرج من الدينونة المذلّـة لشتّى الأرباب، إلى الدينونة الكريمة العزيزة لربّ العباد.. إنها لنعمة يدعو إبراهيم ربّه ليحفظها عليه، فيجنّبه هو وبنيه أن يعبد الأصنام([36]).
المقصد الحادي عشر
التأكيد على وحدة الأمّة واجتماعها
فمن مقاصد الحج التأكيد على وحدة الأمّة، وتماسكها، وإحياء معنى الأخوّة الإيمانية، وهذه من أعظم المنافع التي يجنيها الحاجّ من موسم الحج، حيث إن اجتماع الأمّة بهذه الأعداد الكبيرة، مع اختلاف أشكالهم ولغاتهم، على توحيد الله تعالى، وعبادته، يترك مردودًا نفسيًّا واجتماعيًّا كبيرًا في قلوب أهل الإيمان، إلى جانب الأثر العظيم الذي يتركه في قلوب أعداء الإسلام. ولذلك أمر الله المسلمين بالاجتماع على دينه، فقال سبحانه: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا](آل عمران: 103).
ولا شك أنّ الأمّة تعيش حالات من التفكّك والتمزق، لكن مثل هذا النسك يُعيد للأمّة وحدتها، واعتبارها، ويبعث روح الأخوّة الإيمانية من جديد كلّ عام، حتى لا ينشغل المسلم بهمومه وبمشكلاته الخاصّة، عن هموم الأمّة ومشكلاتها وقضاياها الكبرى.
يرى سيد قطب أن التأكيد على وحدة الأمّة، واجتماعها، يقوم على ركيزتين: الأولى: الإيمان والتقوى، والثانية: الأخوّة الإسلامية، فيقول – رحمه الله -: “ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة، وتؤدّي بهما دورها الشاق العظيم، فإذا انهارت واحدة منهما، لم تكن هناك جماعة مسلمة، ولم يكن هنالك دور لها تؤدّيه:
ركيزة الإيمان والتقوى أولاً.. التقوى التي تبلغ أن توفي بحقّ الله الجليل.. التقوى الدائمة اليقظة، التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر، حتى يبلغ الكتاب أجله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ].. اتقوا الله، كما يحقّ له أن يتّقى، وهي هكذا بدون تحديد، تدع القلب مجتهداً في بلوغها، كما يتصوّرها، وكما يطيقها.. وكلما أوغل القلب في هذا الطريق، تكشّفت له آفاق، وجدّت له أشواق.. وكلما اقترب بتقواه من الله، تيقّظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى. وتطّلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام!
[وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ].. والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه، فمن أراد ألا يموت إلا مسلماً، فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً، وأن يكون في كل لحظة مسلماً. وذكر الإسلام بعد التقوى يشـي بمعناه الواسع: الاستسلام، الاستسلام لله، طاعة له، واتّباعاً لمنهجه، واحتكاماً إلى كتابه.هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقّق وجودها، وتؤدّي دورها. إذ إنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمّع تجمّعاً جاهلياً، ولا يكون هناك منهج لله تتجمّع عليه أمّة، إنما تكون هناك مناهج جاهلية، ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية، إنما تكون القيادة للجاهلية.
فأما الركيزة الثانية، فهي ركيزة الأخوّة.. الأخوّة في الله، على منهج الله، لتحقيق منهج الله: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]..
فهي أخوّة إذن تنبثق من التقوى والإسلام.. من الركيزة الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله تعالى، أي عهده ونهجه ودينه، وليست مجرد تجمّع على أي تصوّر آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة!
[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا].. هذه الأخوّة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتنّ الله بها على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبّهم من عباده دائماً. وهو هنا يذكّرهم هذه النعمة.. يذكّرهم كيف كانوا في الجاهلية (أعداء).. وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد، وهما الحيّان العربيان في يثرب.. يجاورهما اليهود، الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة، وينفخون في نارها، حتى تأكل روابط الحيّين جميعاً، ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه.. فألّف الله تعالى بين قلوب الحيّين من العرب بالإسلام.. وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة.. وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع، فيصبحون بنعمة الله إخواناً.. وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوّة في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصـرية، ويتجمّع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال”([37]).وفي الحج نرى معنى الوحدة جليّاً كالشمس: وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول.. لا إقليمية، ولا عنصـرية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، إنما هم جميعاً مسلمون، بربّ واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتابٍ واحد يقرأون، ولرسول واحد يتّبعون، ولأعمال واحدة يؤدّون.. فأيّ وحدة، وأيّ نظام أعمق من هذه، وأبعد غوراً؟
المقصد الثاني عشر
الحج أعظم مؤتمر عالَمي وحضاري
إن الحج يشكل مؤتمرًا حضاريًّا تجتمع له الملايين، فالحضارة إنما تتحقق باتصال الشعوب بعضها ببعض، فتقتبس من بعضها الرقيَّ والنمو في المعرفة والسلوك والعلم والصناعة والتجارة وغيرها، وذاك ما يحدث أثناء تأدية فريضة الحج.
وعن هذا المؤتمر العالمي الجامع السنوي يقول سيد قطب – رحمه الله -: “والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه مجرّدين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجرّدين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميّز فرداً عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنساً عن جنس.. إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة، ونسب الإسلام هو وحده النسب، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة.. وقد كانت قريش في الجاهلية تسمّي نفسها (الحمس)([38]) جمع أحمس، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرّقهم عن سائر العرب.. ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في (عرفات)، ولا يفيضون، أي يرجعون، من حيث يفيض الناس، فجاءهم هذا الأمر ليردّهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]..
قال البخاري: حدّثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: (كان قريش، ومن دان دينها، يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمّون الحمس، وسائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيّه ﷺ أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها. فذلك قوله: من حيث أفاض الناس)([39])..
إن الإسلام لا يعرف نسباً، ولا يعرف طبقة.. إن الناس كلهم أمّة واحدة، سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى([40]).
إن الالتقاء الذي يحدُثُ بين المسلمين، على اختلاف مشاربهم وأجناسهم ولغاتهم، أثناء تأدية شعيرة الحج: كفيلٌ بمعالجة مشاكل المسلمين، وتدارس قضاياهم العظيمة؛ من قبيل السلم الاجتماعي، وإرساء دعائم الأخوَّة الإيمانية، وتكريس مبدأ السلم العالَمي، والتعاون الدولي، وحفظ الحقوق، وتنمية الروح الجماعية، وصفاء القلوب، وإبعاد كيد النفس الأمَّارة بين الناس، وكيد الشيطان في العَلاقات داخل الأُسر، وفي المجتمعات.. يقول سيد قطب – رحمه الله -: “هذا هو البيت الذي اختاره الله للمسلمين قبلةً.. هو بيت الله الذي جعل لـه هذه الكرامة.. وهو أول بيت أقيم في الأرض للعبادة.. وهو بيت أبيهم إبراهيم.. وفيه شواهد على بناء إبراهيم له.. والإسلام هو ملّة إبراهيم، فبيته هو أولى بيت بأن يتّجه إليه المسلمون، وهو مثابة الأمان في الأرض، وفيه هدى للناس، بما أنه مثابة هذا الدين.
ثم يقرّر أن الله سبحانه وتعالى فرض على الناس أن يحجّوا إلى هذا البيت، ما تيسّـر لهم ذلك.. وإلا فهو الكفر الذي لا يضـرّ الله شيئاً: [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ](آل عمران: 97)، ويلفت النظر، في التعبير، هذا التعميم الشامل في فرضية الحج: [عَلَى النَّاسِ].. ففيه أولاً إيحاء بأن هذا الحجّ مكتوب على هؤلاء اليهود، الذين يجادلون في توجّه المسلمين إليه في الصلاة، على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحجّ إلى هذا البيت، والتوجه إليه، بوصفه بيت أبيهم إبراهيم، وبوصفه أوّل بيت وضع للناس للعبادة، فهم، اليهود، المنحرفون المقصـّرون العاصون! وفيه ثانياً إيحاء بأن الناس جميعاً مطالبون بالإقرار بهذا الدين، وتأدية فرائضه، وشعائره، والاتّجاه والحج إلى بيت الله، الذي يتوجّه إليه المؤمنون به.. هذا، وإلا فهو الكفر، مهما ادعى المدعون أنهم على دين! والله غني عن العالمين.. فما به من حاجة – سبحانه – إلى إيمانهم وحجّهم. إنما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة..
والحج فريضة في العمر مرّة، عند أوّل ما تتوافر الاستطاعة؛ من الصحة، وإمكان السفر، وأمن الطريق.. ووقت فرضها مختلف فيه، فالذين يعتمدون رواية أن هذه الآيات نزلت في عام الوفود، في السنة التاسعة، يرون أن الحج فرض في هذه السنة، ويستدلّون على هذا بأن حَجّة رسول الله ﷺ كانت فقط بعد هذا التاريخ.. وقد قلنا عند الكلام على مسألة تحويل القبلة، في الجزء الثاني من الظلال: إن حجة الرسول ﷺ لا دليل فيها على تأخّر فرضية الحج، فقد تكون لملابسات معيّنة؛ منها أن المشـركين كانوا يطوفون بالبيت عرايا، ما يزالون يفعلون هذا بعد فتح مكة، فكره رسول الله ﷺ أن يخالطهم، حتى نزلت (سورة براءة) في العام التاسع، وحرّم على المشـركين الطواف بالبيت.. ثم حجّ ﷺ حجته في العام الذي يليه.. ومن ثم فقد تكون فرضية الحج سابقة على ذلك التاريخ، ويكون نزول هذه الآية في الفترة الأولى من الهجرة، بعد غزوة أحد أو حواليها.. وقد تقرّرت هذه الفريضة على كل حال بهذا النص القاطع، الذي يجعل لله حقّ حجّ البيت على [الناس]، من استطاع إليه سبيلاً”([41]).
وهذه الأمّة، وإن بدت متخلّفةً؛ مادياً وعسكرياً، بسبب تقصير أهلها بالأخذ بأسباب القوّة والإعداد، إلا أنها تأوي إلى ركن شديد من العقائد، والشـرائع، والأخلاق، ما إن يأذن الله بالفتح والفرج، حتى تعود لخيريّتها، وتؤدّي دورها الذي أكرمها الله به، فلا ينبغي للمؤمن أن يهون، ولا يحزن، مهما بلغ الحال من الهزيمة الظاهرية.. وما أحرى الأمّة، بجميع فئاتها وتخصصاتها، أن تتخذ من موسم الحج موسماً للتلاقي، والتباحث في مصالحها المختلفة؛ فتعقد المؤتمرات السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والاجتماعية، في موسم الحج، ويتكرر ذلك كل عام، إذاً لانحلّت مشكلات كثيرة، وتذلّلت صعاب جمّة، وبدت الأمّة أمام خصومها قويةً متماسكة.
المقصد الثالث عشر
إكمال الدين وإتمام النعمة
يوم حج النبي ﷺ مع أمّته، نزل قول الله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً](المائدة: 3).. في هذا اليوم، يوم عرفة، من العام العاشر من هجرة المصطفى ﷺ؛ أكمل الله لهذه الأمّة دينها، وأتمّ عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً.. وعن إكمال هذا الدين، وإتمام النعمة، وشعور الحاج بذلك، يقول سيد قطب – رحمه الله -: “اليوم.. الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع.. أكمل الله هذا الدين، فما عادت فيه زيادة لمستزيد.. وأتمّ نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل.. ورضي لهم )الإِسْلامَ( ديناً؛ فمن لا يرتضيه منهجاً لحياته، إذن، فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين.
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة، وتوجيهات عميقة، ومقتضيات وتكاليف..
إن المؤمن يقف أولاً: أمام إكمال هذا الدين؛ يستعرض موكب الإيمان، وموكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشـرية، ومنذ أول رسول (آدم – عليه السلام -)، إلى هذه الرسالة الأخيرة، رسالة النبيّ الأمّيّ ﷺ إلى البشـر أجمعين.. فماذا يرى؟.. يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل، موكب الهدى والنور.. ويرى معالم الطريق، على طول الطريق.. ولكنه يجد كل رسول، قبل خاتم النبيين، إنما أُرسل لقومه.. ويرى كل رسالة، قبل الرسالة الأخيرة، إنما جاءت لمرحلة من الزمان.. رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، في بيئة خاصة.. ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه؛ متكيّفة بهذه الظروف.. كلّها تدعو إلى إله واحد، فهذا هو التوحيد.. وكلّها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد، فهذا هو الدين.. وكلّها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد، والطاعة لهذا الإلـه الواحد، فهذا هو الإسلام.. ولكن لكلّ منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة، وحالة البيئة، وحالة الزمان والظروف..
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشـر؛ أرسل إلى الناس كافة، رسولاً، خاتم النبيين، برسالة «للإنسان» لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة.. رسالة تخاطب «الإنسان» من وراء الظروف والبيئات والأزمنة؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل، ولا تتحوّر، ولا ينالها التغيير: [فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ](الروم: 30)، وفصّل في هذه الرسالة شريعةً تتناول حياة «الإنسان» من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها؛ وتضع لها المبادئ الكلية، والقواعد الأساسية، فيما يتطوّر فيها ويتحوّر بتغيّر الزمان والمكان؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية، فيما لا يتطوّر ولا يتحوّر بتغيّر الزمان والمكان.. وكذلك كانت هذه الشـريعة؛ بمبادئها الكلية، وبأحكامها التفصيلية، محتوية كل ما تحتاج إليه حياة «الإنسان»، منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان؛ من ضوابط وتوجيهات وتشـريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد؛ حول هذا المحور، وداخل هذا الإطار.
قال الله تعالى للذين آمنوا: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً].. فأعلن لهم إكمال العقيدة، وإكمال الشـريعة معاً.. فهذا هو الدين.. ولم يعد للمؤمن أن يتصوّر أن بهذا الدين، بمعناه هذا، نقصاً يستدعي الإكمال، ولا قصوراً يستدعي الإضافة، ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير.. وإلا فما هو بمؤمن؛ وما هو بمقرّ بصدق الله تعالى؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين!
إن شريعة ذلك الزمان الـذي نزل فيه القرآن، هي شريعة كل زمان، لأنها، بشهادة الله تعالى، شريعة الدين الذي جاء «للإنسان» في كل زمان، وفي كل مكان؛ لا لجماعة من بني الإنسان، في جيل من الأجيال، في مكان من الأمكنة، كما كانت تجيء الرسل والرسالات.
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي، والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشـرية إلى آخر الزمان؛ دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج من إطار الإيمان!
والله – سبحانه – الذي خلق «الإنسان»، ويعلم من خلق؛ هو الذي رضي له هذا الدين؛ المحتوي على هذه الشـريعة. فلا يقول: إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان؛ وبأطوار الإنسان!
ويقف المؤمن ثانياً: أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين، بإكمال هذا الدين؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة، النعمة التي تمثّل مولد «الإنسان» في الحقيقة، كما تمثّل نشأته واكتماله.. «فالإنسان» لا وجود له قبل أن يعرف إلهه، كما يعرّفه هذا الدين له، وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه، كما يعرّفه له هذا الدين، وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود، وكرامته على ربّه، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه.. و«الإنسان» لا وجود له قبل أن يتحرّر من عبادة العبيد، بعبادة الله وحده؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية، بأن تكون شريعته من صنع الله، وبسلطانه، لا من صنع أحد ولا بسلطانه.
إن معرفة «الإنسان» بهذه الحقائق الكبرى، كما صوّرها هذا الدين، هي بدء مولد «الإنسان».. إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى؛ يمكن أن يكون «حيواناً» أو أن يكون «مشـروع إنسان» في طريقه إلى التكوين! ولكنه لا يكون «الإنسان» في أكمل صورة للإنسان، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صوّرها القرآن.. والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان!
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية، لهو الذي يحقق «للإنسان» «إنسانيته» كاملة.. يحققها له وهو يخرجه بالتصوّر الاعتقادي، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من دائرة الحسّ الحيواني، الذي لا يدرك إلا المحسوسات، إلى دائرة «التصوّر» الإنساني، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات.. عالم الشهادة وعالم الغيب.. عالم المادة وعالم ما وراء المادة.. وينقذه من ضيق الحسّ الحيواني المحدود! ويحقّقها له وهو يخرجه بتوحيد الله، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده، والتساوي والتحرّر والاستعلاء أمام كل من عداه.. فإلى الله وحده يتّجه بالعبادة، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشـريعة والنظام، وعلى الله وحده يتوكل، ومنه وحده يخاف.. ويحقّقها له، بالمنهج الرباني، حين يرفع اهتماماته، ويهذّب نوازعه، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء، والاستعلاء على نوازع الحيوان، ولذائذ البهيمة، وانطلاق الأنعام!
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين، ولا يقدّرها قدرها، من لم يعرف حقيقة الجاهلية، ومن لم يذق ويلاتها.. والجاهلية في كل زمان، وفي كل مكان، هي منهج الحياة الذي لم يشـرّعه الله.. فهذا الذي عرف الجاهلية، وذاق ويلاتها.. ويلاتها في التصور والاعتقاد، وويلاتها في واقع الحياة.. هو الذي يحسّ ويشعر، ويرى ويعلم، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين..
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى، وويلات الحيرة والتمزّق، وويلات الضياع والخواء، في معتقدات الجاهلية، وتصوّراتها، في كل زمان، وفي كل مكان.. هو الذي يعرف ويتذوّق نعمة الإيمان.
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى، وويلات التخبط والاضطراب، وويلات التفريط والإفراط، في كل أنظمة الحياة الجاهلية، هو الذي يعرف ويتذوّق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام.
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أوّل مرة، يعرفون ويدركون ويتذوّقون هذه الكلمات، لأن مدلولاتها كانت متمثّلة في حياتهم، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن..
كانوا قد ذاقوا الجاهلية.. ذاقوا تصوّراتها الاعتقادية.. وذاقوا أوضاعها الاجتماعية.. وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية.. وبلوا من هذا كلّه ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنّته بالإسلام.
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية؛ وسار بهم في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة، فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك.
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام، والملائكة، والجنّ، والكواكب، والأسلاف؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة، والخرافات السخيفة؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد.. إلى أفق الإيمان بإله واحد، قادر قاهر، رحيم ودود، سميع بصير، عليم خبير، عادل كامل، قريب مجيب، لا واسطة بينه وبين أحد؛ والكل له عباد، والكل له عبيد.. ومن ثم حرّرهم من سلطان الكهانة، ومن سلطان الرياسة، يوم حرّرهم من سلطان الوهم والخرافة.
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية.. كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة، والمرأة المنكودة، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية، والتبرّج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها، والثارات والغارات والنهب والسلب، مع تفرّق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي، كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة، وتخاذل وخذلان القبائل كلها، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديداً!
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمّة؛ تطل من القمة السامقة على البشـرية كلها في السفح، في كل جانب من جوانب الحياة.. في جيل واحد، عرف السفح، وعرف القمة، عرف الجاهلية وعرف الإسلام، ومن ثم كانوا يتذوّقون ويدركون معنى قول الله لهم: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً]..
ويقف المؤمن ثالثاً: أمام ارتضاء الله الإسلام ديناً للذين آمنوا.. يقف أمام رعاية الله تعالى وعنايته بهذه الأمّة، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه.. وهو تعبير يشـي بحبّ الله لهذه الأمّة، ورضاه عنها، حتى ليختار لها منهج حياتها..
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمّة عبئاً ثقيلاً، يكافئ هذه الرعاية الجليلة.. أستغفر الله.. فما يكافئ هذه الرعاية الجليلة، من الملك الجليل، شيء تملك هذه الأمّة – بكل أجيالها – أن تقدّمه.. وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة، ومعرفة المنعم.. وإنما هو إدراك الواجب، ثم القيام بما يستطاع منه، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه.
إن ارتضاء الله الإسلام ديناً لهذه الأمّة، ليقتضـي منها ابتداءً أن تدرك قيمة هذا الاختيار، ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين، جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار…([42]).
المقصد الرابع عشر
الحج درس في الاتباع والاقتداء
إن محبة الرسول ﷺ من أجلّ أعمال القلوب، وأفضل شعب الإيمان.. ومحبة الرسول ﷺ تستوجب متابعته، والتزام هديه، وإن التأسّي به ﷺ أثناء القيام بمناسك الحج، سبب في نيل محبته، حيث قال – عليه الصلاة والسلام -: (خذوا عني مناسككم)([43])، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج.
وفي اتّباع النبي ﷺ تحقيق لمحبة الله تعالى؛ كما قال الله سبحانه: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ](آل عمران: 31).
إذًا، فالآية جاءت لبيان حقيقة الاتّباع للرسول ﷺ، مقرونًا بالمحبة والمغفرة، وكيف يكون صادقًا في هذا الاتّباع. وهذا ما يؤكّده سيد قطب: إن الطريق إلى الله تعالى هو طريق الاتّباع للرسول الكريم محمد ﷺ، واقتفاء أثره، وسلوك منهجه… إن الإسلام هو طاعة الله تعالى، والرسول ﷺ.. وإن الطريق إلى الله هو طريق الاتّباع للرسول، وليس مجرّد الاعتقاد بالقلب، ولا الشهادة باللسان.. فإمّا طاعة واتّباع يحبّه الله، وإما كفر يكرهه الله.. وهذا هو مفرق الطريق الواضح المبين.. ويجيء هذا الدرس قوياً حازماً، حاسماً في القضية التي يعالجها، والتي تمثّل أكبر الخطوط العريضة الأساسية في السورة.. يجيء ليقرّر، في كلمات قصيرة، حقيقة الإيمان، وحقيقة الدين، ويفرّق تفريق حاسماً بين الإيمان والكفر، في جلاء لا يحتمل الشبهات: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]..
إن حبّ الله ليس دعوى باللسان، ولا هياماً بالوجدان، إلا أن يصاحبه الاتّباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة.. وإن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام، ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول ﷺ.. يقول الإمام ابن كثير: “هذه الآية الكريمة حاكمة على من ادّعى محبّة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتّبع الشـرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ)([44]).. ويقول([45]) عن الآية الثانية: [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ، فَإِن تَوَلَّوْا].. أي: تخالفوا عن أمره، [فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ].. فدلّ على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحبّ من اتّصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محبّ لله”([46]).
* * *
هذه بعض المقاصد والأسرار التي أَطْلع اللهُ عليها بعض عباده حول هذه الفريضة العظيمة، وتبقى حكمة الله، وأسرار عباداته، ومقاصدها، بحرًا واسعًا، يكشف الله منها ما يشاء، ويحجب منها ما يشاء.. وفي جميع الأحوال، ينبغي أن يظلّ العبد متلبّسًا بالعبودية، سواء عرف الحكمة أم حُجِبَت عنه؛ لأنه يعبد إلهًا حكيمًا لا يأمر بشيء إلّا وفيه حكمة، ولا ينهى عن شيء إلّا بحكمة.
([2]) محاسن التأويل للقاسمي: 2/63.
([4]) في ظلال القرآن: 4/2421-2422.
([5]) في ظلال القرآن: 3/1240-1241.
([7]) رواه البخاري، تعليقاً، في كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق: 1/306، والبيهقي في السنن، كتاب الحج، باب الأيام المعلومات والمعدودات: 5/228، وقال النووي في المجموع: 8/382: (رواه البيهقي بإسناد صحيح).
([9]) في ظلال القرآن: 1/196-197.
([11]) في ظلال القرآن: 3/1499.
([12]) في ظلال القرآن: 4/2422.
([13]) قال الكلبي، في كتابه (الأصنام): وكان لهم إساف ونائلة، لما مسخا حجرين، وضعا عند الكعبة، ليتعظ الناس بهما، فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام، عبدا معها. وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما.
([14]) يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة فسقا في الكعبة، فمُسخا، فأقامهما أهل مكة للعبرة، ثم مع مرور الأيام غدوا من أوثان أهل مكة المقدسة..
([15]) تفسير القرآن العظيم: 4/553.
([16]) رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، رقم (1648).
([17]) في ظلال القرآن: 1/148-149.
([18]) رواه البخاري في صحيحه، رقم: (4519).
([19]) رواه أبو داود في سننه، برقم: (1731)، والطبري في التفسير: 2/284.
([20]) إنّا أُناسٌ نُكْرِي (من الكراء، وهو أجر المستأجر)، والمعنى: أننا نكري دوابنا للحجاج، ونكون معهم في جميع المشاهد. (الفتح الرباني: 18/84).
([22]) رواه الإمام أحمد في مسنده: 10/473، رقم (6434)، تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، وأبو داود في سننه، برقم: (1733)، والحاكم في المستدرك: 1/449، وصحّح إسناده، ووافقه الذهبي.
([23]) رواه الطبري في تفسيره: 4/168، رقم (3788). وانظر: تفسير القرآن العظيم: 1/425.
([24]) في ظلال القرآن: 1/197-198.
([25]) في ظلال القرآن: 4/2418-2420.
([26]) رواه الإمام أحمد: 4/309، وأبو داود رقم (1949) كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، والحاكم في المستدرك: 1/464، كتاب المناسك، باب الوقوف بالمزدلفة، قال الذهبي: صحيح)، والترمذي في السنن: 3/237، كتاب الحج (7)، باب ما جاء فيمن أدرك الإِمام بجمع، فقد أدرك الحج (57)، الحديث (889)، وابن ماجه في السنن: 2/1003، كتاب المناسك (25)، باب منَ أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (57)، الحديث (3015)،
([27]) رواه الترمذي، برقم (891)، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود: 2/196 (1950) والنسائي: 5/213 وابن ماجة: 2/1004 (3016).
([28]) هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه، قدّام واسطة الرحل، إذا ملّ الركوب.
([29]) رواه مسلم في صحيحه، رقم: (1218) في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ. قال الإمام النووي: حديث جابر حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد.
([30]) في ظلال القرآن: 1/198-200.
([32]) في ظلال القرآن: 1/200-201.
([34]) في ظلال القرآن: 1/127-128.
([36]) في ظلال القرآن: 4/2108-2109.
([37]) في ظلال القرآن: 1/442-443.
([38]) الحُمْس: جمعُ الأحْمَس، وهُم قريشٌ، ومن ولدتْ قُريشٌ، وكنانة، وجُديلة قيس. سُمُّوا حُمْسًا لأنَّهم تَحَمَّسُوا في دينِهم، أي تَشَدَّدُوا. والحمَاسَة الشَجَاعَة. وكانوا يقِفُون بِمُزدَلِفَةَ، ولا يَقِفون بعرفةَ، ويقولون: نحنُ أهْلُ الله، فَلاَ نَخْرُجُ مِنَ الحَرمَ، وكانُوا لا يَدْخُلُونَ البُيُوتَ منْ أبوابِهَا وهُم مُحرِمون. انظر: النهاية في غريب الحديث: 1/440.
([39]) رواه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، باب: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ]، رقم (4520)، ومسلم في صحيحه، رقم (1219). ومعنى هذا الحديث أن أهل مكة كانوا لا يخرجون من الحرم، وعرفة خارجٌ من الحرم، وأهل مكة يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن قطين الله، يعني: سكان الله. ومَنْ سوى أهل مكة كانوا يقفون بعرفات، فأنزل الله تعالى: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ].
([41]) في ظلال القرآن: 1/435-436.
([42]) في ظلال القرآن: 2/742-845.
([43]) رواه مسلم رقم (1297) في الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر، وأبو داود رقم (1970) في المناسك، باب في رمي الجمار، والنسائي في الحج، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد كتاب (الحج) باب: الخطب في الحج: 3/269.
([44]) رواه البخاري، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، برقم (2250)، ومسلم، في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، برقم (1718).
([46]) تفسير القرآن العظيم: 1/366.
العدد 188 ǀ صيف 2024 ǀ السنة الحادية والعشرون