شعرة إبقاء سلامة النقاش

إسماعيل طه شاهين – دهوك

 عندما یحتدم النقاش، ویتشبث کل طرف بما يعتقد أنه الصواب، وأن ما هو عليه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حينها يجب أن ندرك أن المشكلة تكمن في زاوية نظر كل طرف من طرفي النقاش، لا أكثر ولا أقل.

عندما أجعل من نفسـي ناطقاً وممثلاً لحقيقة مطلقة، وسط كون واسع شاسع لا يحيط علمنا وكل معارفنا بنسبة أقل من القليل من مجهوله.. عندما نجعل من مقاييسنا؛ التي لا تتجاوز ما يحيط بکوکبنا، مطلقة أيضاً، من دون أن نقتنع بأنها لا تنطبق على کل الكون المحيط بفضائنا.. حينها يجب أن نتيقن من أن الطريق المؤدي إلى التفاهم مسدود.

تعوّدنا أن نتهم كل من لا يقتنع بعقيدتنا بالجهل، وما شابه من نعوت، لنعيد لميزاننا المختل توازناً وسط صراعات شتى نفسية وفكرية و … و … إلخ.. هذا ما يمهد السبيل لغيرنا أن يأخذ عنا الانطباع أننا مصابون بداء الغرور؛ وما أصدقها من حقيقة! دوماً نحن أسرى تفكير مؤطّر، وقراءات معيّنة، لها زاوية محددة ومنطلق معين، وهنا يفور التنور الذي يسبق الطوفان.

لا تثمر رؤیتنا السابقة، وقراءاتنا المبنیة علیها، وذلك التفكير المؤطّر السابق، سوى عن ميل نحو عجالة التبسيط، الذي لا يحمّلنا تعباً ونصباً، بغية الوصول إلى حقائق مستعصية على فهمنا، وخارجة عن إدراكنا، لكونها خارجة عن أطر التبسيط المعتمد من قبلنا.. إنها رؤية تخفّف عنّا فقط عبء الأسئلة الصعبة، بأجوبة مستعجلة لا تتسق ومؤونة الجواب الذي ننتظره.

في خريف العمر، وكثمرة من ثمرات تجربة القراءات المتعددة المتنوعة، ربما نتوصّل إلى حقيقة مفادها أن التبسيط لا يخدم غير التضليل، ويهدف من ورائه من يعتمده، على جعل المتلقي تحت ضغط فكرة أو عقيدة، صادّاً بذلك أمامه كل طرق الإيمان عن قناعة.

بمرور الأيام، وتوالي التجارب والقراءات، نقتنع – رغماً عنا – أن الكون أكبر من أن يحيط به علم عالم أو جهل جاهل، ونجد أنفسنا أمام هدف لا مفر منه، وهو  البحث الدائم عن الحقيقة، بعيداً عن الغرور الذي يكتنف بعض الفلسفات والأفكار هنا وهناك. نجري وراء الانسجام والمصالحة مع النفس، وسط ضباب كثيف من الصراعات والشكوك والردود.

خلال مسيرتنا؛ من الطبيعي أن نتّهم هذا وذاك بالجهل، ونُتهم من قبل آخرين بالداء نفسه، عندما لا يوافقوننا ونوافقهم الرأي بهذا الشأن أو ذاك. طبيعي أن لا نتفق مع بعضنا البعض، عندما لا نجد الأدلة الكافية للإقناع، وتتحمل زاوية النظر وزر ومؤونة كل اختلاف مهما اتسعت مساحته، ويبقى احترام وجهة النظر – من دون تسفيه، أو اتهام المختلف بالجهل – نقطة انطلاق كل نقاش مُجدٍ..

هكذا أرى، وأقرأ، وأعتقد.. أشفق من كل قلبي لحال من يغترّ بإحاطة العلم بكل شيء، في الوقت الذي لا يقرّ العلم لنفسه بذلك.

 وأخيراً، وأكرّرها في أكثر من مناسبة: إعادة القراءة من جديد، وفهم الآخر المختلف أكثر وأكثر، ضرورية. احترام وجهة نظرە، في حكم الواجب الإنساني، حتى لو لم نقتنع بكل ما هو عليه.. مساحة الاختلاف بمثابة الاستراحة للجميع، والحوار – كما يقال – خصام المحبين.. لقد آن الأوان لكسـر حواجز الغرور بكل أريحية، بعد أن تعدّدت القراءات، وكثرت النظريات، و تفرّعت المجالات، وضاقت مساحة الغرور. أن نناقش بهدوء لا يسبق عاصفة الغضب، خير من أن نبدأ بعاصفة لا تنتهي بهدوء. ما أروع قول من قال: (لو تحدث الناس فيما يعرفونه فقط، لساد الهدوء أماكن كثيرة).. ضع نصب عينيك دوماً أن كل أنواع الحروب تبدأ بحروب كلامية صاخبة، وكل سلام نتاج مبادرات كلامية هادئة.. لا خير في الحرب، فلنبدأ بكلام هادئ، لننعم بسلام ووئام.

العدد 188 ǀ صيف 2024 ǀ السنة الحادية والعشرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى