التطرف والعنف هوية دولية متعددة الأبعاد
حامد محمد علي
لا شك أن التطرف والعنف، وحتى الإرهاب؛ ظاهرة دولية ومشكلة اجتماعية في آن واحد، وليست نتاج فكر أو إيدولوجيا أو جغرافية معينة، ولكن حين تأخذ هذه الثلاثية منحى أو أبعاداً دينية، أو أن تظهر بلوس مذهبـي وطائفي، فإن مردودها حينذاك سيكون كارثياً للغاية.
وفيما يتعلق بالبُعد الديني للتطرف والعنف، أو ما يطلق عليه سياسياً بـ(الإرهاب الإسلامي)، والذي أصبح تداوله شائعاً بشكل متزايد في الغرب؛ خاصة بعد تداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001، وكذلك يتم تداوله باللهجة السياسية ذاتها في عالمنا الإسلامي الواقع تحت تأثير الإعلام الغربي، والدعاية المغرضة ضد الإسلام، فلا بد أن نعلم بأن الإسلام دين سيادة الأمن والاستقرار والسلام، ومنهج حياة يقر بحرية الاعتقاد، وقد أرسى قوانين لحماية حرية المعتقد ضمن الدولة الإسلامية، وأن التطرف والعنف ظاهرة طارئة لم تألفها المجتمعات الإسلامية في العصور السالفة، فالإسلام بريء من السلوك الإرهابي لبعض الجماعات التي تطلق على نفسها (إسلامية).
وهناك آيات تؤكد كفالة القرآن لحرية الفكر واختيار المعتقد، وأنه لا يجوز لأحد أن يفرض ما يعتقد على الآخرين [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ] (البقرة 256) و[وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] (الكهف 29).
فإذا كان فرض الدين على الأفراد عنوة غير جائز، وللكل الحرية في اختيار عقيدته الدينية، فإن الأولى أن تكون حرية التفكير مقدمة على ذلك، ويأتي ذلك في قلب المنهج الإسلامي.
وعلى هذا فـإن (القرآن) بوصفه آخر الكتب السماوية المنزلة، جاء قراره واضحاً لا لبس فيه، بأن الناس أحرار فيما يعتقدون.
ووفقاً لهذه الحرية المكفولة، فـإن للأفراد الحق في اعتناق الأفكار والآراء المتباينة دون أي تدخل، لأنها تندرج ضمن مفهوم الحق الطبيعي، ناهيك عن أنها من السنن الإلهية في نشأة المجتمعات الإنسانية. [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] (هود 118)… [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] (يونس 99).
وللحديث عن الكيفية التي يتم بها قطع الطريق على تفشي الإرهاب الفكري والسلوك العنيف، يتحتم بداية تشخيص البواعث وتحديد الأسباب الكامنة وراءها، ومن ثم إيجاد الحلول لهذه العلة القادحة.
الواضح أن للتطرف والعنف أبعاداً متعددة وشائكة، فالإنسان يولد صافياً مسالماً، غير أن العنف سلوك مكتسب، ليس له باعث فطري، فالطفل لا يولد عنيفاً، إنما البيئة والتربية والأهل والمجتمع المحيط؛ تعمل على صياغة شخصيته، إما شخصاً معتدلاً متسامحاً، أو عنيفاً منفلتاً هائج الطباع.
ولعل أحد الأسباب يرجع الى السطحية في فهم النصوص والتأويلات المتشظية، بحيث تجعل من الأفراد عنيفين فكرياً وسلوكياً في تعاملهم مع المحيط المعاش، يرفضون قبول الآخر حتى لمجرد الخلاف في الرأي، فما بالك بالمختلف في المعتقد.
وفي أحايين كثير تشكل البيئة التي تغيب فيها العدالة والديمقراطية والمساواة، وتطغى عليها الفئوية والسلطة الاستبدادية؛ باعثاً لنمو الضغائن والأحقاد وغرسها في النفوس، وبالتالي يلجأ الأفراد إلى العنف كوسيلة لتغيير الأوضاع.
في الحقيقة؛ من الطبيعي جداً وجود اختلافات وتباينات ولو ضمن المنظومة الفكرية الواحدة، وهذه الحالة ماثلة حتى داخل الحركات الإسلامية والتيارات العلمانية أيضاً، طالما لا تشكل عائقاً بوجه التعايش المشترك، والالتفاف حول النقاط المشتركة، وهذا يتوقف على مدى الفهم النير، والوعي الحضاري.
ورغم أن التطرف ليس مقبولاً البتة ولا يمكن الاحتجاج به، لكن لا يعني أنه آت من فراغ، إنما له حيثيات وبواعث يمكن إيجازها كالآتي:
1- التأويل والتفسير الخاطئ للنصوص الدينية.
2- التنشئة الخاطئة والأمية وانخفاض منسوب الوعي.
3- غياب العدالة وانتقائية السلطة في التعامل مع فئات المجتمع.
4- شيوع الفقر والبطالة بين شريحة الشباب.
5- انتهاك الحريات العامة والتضييق على الآراء السياسية.
ونجدد التأكيد على أن الفهم الخاطئ للنص، والتنشئة غير السوية، يشكلان أرضاً خصبة لانتاج شخصية ثيمتها العنف والتطرف.
ولقطع الطريق على نشوء الأفكار المتشددة والسلوكيات المتطرفة، أو حتى التقليل منها، لا بد من الوقوف ملياً على الأسباب الآنفة الذكر.
وباستثناء السلطة التي تلجأ كالعادة الى الحلول الأمنية لاحتواء التطرف؛ من الأهمية بمكان تظافر جهود وسائل الإعلام والمنظمات السياسية والمهنية والجماهيرية، وحتى المؤسسات الدينية والمراكز الثقافية والأوساط الفكرية والنخب؛ في نشر الاعتدال والوسطية، وتعزيز قيم التسامح والتعايش المشترك بين مختلف مكونات المجتمع. ختاماً؛ تقتضي الضرورة أن تشرع السلطات الحاكمة في إطلاق مشروع متعدد الجوانب للإصلاح والتغيير.
العدد 188 ǀ صيف 2024 ǀ السنة الحادية والعشرون