بين يدي رمضان.. تذكرة ونداء

 صلاح الدين محمد بهاء الدين

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه

الإخوة والأخوات الأعزاء..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

 في استقبال شهر رمضان المبارك، ندعو الله تعالى أن يوفقنا جميعاً، وأن يجعل من هذا الشهر محطة للعبادة والعطاء، ودعم بعضنا بعضاً، وإحياء روح الأخوة، وزيادة روح المسؤولية لدينا جميعاً.

 الحمد لله الذي جعلنا من أهل هدايته وتقواه، ورزقنا نعمة الإيمان.. [رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ].. الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله..

نحن جميعاً نريد ونسعى بأقصـى ما نستطيع إلى خدمة الإسلام والحالة الإيمانية، وخدمة شعبنا وبلدنا، وذلك من خلال إعمار الحياة الدنيا؛ بما يرضي الله، وخدمة مصيرنا الأخروي والحياة الآخرة المرضية عند الله.. فلا يُشكّكنَّ أحدٌ منّا في نيّة الآخر، ولا يظنَنَّ به الظنون.. من المهم أن نكون متفائلين، وأن نحسن الظن بإخواننا، وبشعور الإيمان وجذوته في صفوف المسلمين بشكلٍ عام.

ولا ريب أن عملية التدين، وأنماط الممارسات الإسلامية، تحمل آراء متنوعة في تفاصيلها.. فلا نجعلنّ من ذلك قضية، ومشكلاً.. بل نتقبل ذلك على أنه أمر طبيعي، على طريق الوصول إلى رضا الله.. وطالما كان هناك مجال للاجتهاد، ولاختلاف الآراء، في حدود الإخلاص لله، والصواب في ميزان الشـرع، فإنّ ثمة مكاناً لكل الآراء المختلفة، في إطار العقيدة الصحيحة، والمقبولة عند الله، والأخلاق الحسنة المأخوذة من سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، والالتزام بأحكام الشـريعة وأوامرها.. هذه توصلنا إلى المنزلة، منزلة القبول عند الله..

ولا شكّ أنه ليس من المستبعد، في هذا الطريق، أن يحدث عندنا التعصب لأنفسنا، لرأينا، لجماعتنا، وحزبنا؛ التعصب بمعنى التشدّد، ورؤية الصواب في الذات.. وهو أمر ربما يكون مفهوماً إلى حد ما.. ولكن حصـر الحقيقة في الذات، واعتبارها الحق المطلق، هذا هو الذي يُحدث الفوضى، ويجرّنا إلى الأخطاء، وإلى الصراع والتنافس غير الشرعي، وإلى التشدّد والخروج عن الحكمة واليُسـر، التي جاء بها الشـرع الحنيف.. هذا المجال الواسع الذي جعله الله سبحانه إطاراً لسلوك الإنسان، في ممارسته لتدينه، بحسب النصوص الشـرعية الموجودة، وضمن إطار الاجتهاد.. إن التطرف والتشدّد في الالتزام، سواء في مجال العقيدة أم العبادات أم الأخلاق، أمر خطير على المشـروع، على النهج.. على أي تيار.. هذه الأدواء الثلاثة: التعصب، والتشدّد، والتطرف، تولد حالة غير صحية.. لذا من المهم أن ننظر من هنا إلى آفات طريقنا..

أيها السادة، نحن جميعاً – والحمد لله – ثمرة من بركات الصحوة الإسلامية ونتاجها.. وجزى الله السابقين منّا كل خير؛ من أساتذتنا الذين كانوا مثالاً للصبر والمرابطة، من العلماء والشيوخ والعارفين، على امتداد تاريخ شعبنا، الذين حافظوا على الهوية الإسلامية لهذا الشعب، وصانوها من الاندثار والتشوه.. ولا ريب أن الصحوة الإسلامية المعاصرة هي امتداد لذلك التيار، ومكملة له.. بإضافة اليقظة المعاصرة.. إن فضل هذه الصحوة علينا كبير.. تتجلى علينا في الفكر والرؤية والسلوك.. ولا يجوز أن يكدّر علينا صفو هذه الحقيقة، أيّ نوع من ادعاء الخصوصية أو التمايز المناطقي أو الفِرَقي أو الحزبي، ويكون ذلك سبباً لأن نرى أنفسنا أرباب الحق المطلق، ونظن أن التاريخ يبدأ من عندنا.. ولنعلم يقيناً أن كل تيار لا يملك تاريخاً؛ فلا مستقبل له أيضاً..

إننا في إقليم كوردستان، أيها السادة، نشهد صحوة وحضوراً إسلامياً واسعاً، هذا إذا استثنينا من ذلك بُعْدَ السلطة والحكم، المُحْتَكر من العلمانيين.. ولكن في معظم المجالات الأخرى؛ العلمية، والاجتماعية، ونشاطات المجتمع المدني بشكل عام، هناك حضور إسلامي قوي، وملحوظ.. هنالك الآلاف من حالات الالتزام والتدين.. هذه أمور مفرحة.. وهي يجب أن تبث فينا الأمل والتفاؤل والإيجابية..

لا شك أن البُعْد السياسي محكوم بقدراتنا، وبحالة المحيط الذي نعيش فيه؛ وبالحالة الموضوعية والذاتية بشكلٍ عام.. وليس هذا بمعنى ألَّا نمارس النضال والجهد السياسي.. بل نمارس كل ذلك.. ولدينا أحزاب إسلامية سياسية.. ونحن جزء من الحالة السياسية.. ولكن هذا حديث عن الأولويات؛ حديث عن القضايا الأكثر ضرورة، أو التي نحن أقدر عليها، أو التي هي أكثر ضرورة لمجتمعنا.. إن السياسيين، ورجال السلطة، مشغولون بأحوالهم، ولذا، فعلينا نحن أن نعمل أكثر على الهُويّة، والأخلاق، والمنظومة الأخلاقية لشعبنا.. ولا ننشغل باختلافاتنا الداخلية فيما بيننا.. ونتحمّل من بعضنا البعض اختلاف الرأي.. إن آليات العمل، ووسائله، كيفما كانت، ليست هي موضع إشكال، طالما أن الهدف الرئيس؛ هو رضى الله ورضوانه، وتثبيت الحضور الإسلامي وتقويته في مجتمعنا..

 إن صراع الصحوة الإسلامية مع السلطة، ومع الفكر العلماني الوافد – الذي له حضور هو الآخر، ويجد نفسه في السلطة وأحزابها – هو صراع مستمر.. كلٌ يبذل جهده.. ومن الطبيعي أن يستمرّ هذا الصـراع، والحرب سِجال.. قد تكون هناك مطبّات في الطريق، لكن في جميع الحالات، هذا الصـراع يجب أن يكون ضمن موازين معادلة القدرات، ومعادلات الظروف والأحوال.. جبهة الإسلاميين ينبغي أن تتجنّب التعصب بشكل أكبر، وتنأى بنفسها أكثر عن عدم قبول التعدّد واختلاف الآراء في تفاصيل الاجتهادات.. يجب ألَّا نشخصن الأمور، وألَّا يعتقد كل طرف أنه الحق المطلق، وأن نقبل بعضنا بعضاً، وألَّا نعتبر الاختلاف شيئاً طارئاً أو غريباً.. إنّ الاختلاف بين العلماء السابقين في مجال المذاهب، في كثير من الأمور، مجال واسع، والعمل الحركي الإسلامي هو كذلك أيضاً، يقع فيه اختلاف الآراء، ويوجد فيه الصواب والأصوب، ولكن في جميع الأحوال يجب أن يكون العمل المشترك، ووحدة الصف والقلوب؛ هو هدف الجميع، وألّا نقوم بشـيء يتعارض مع هذا الهدف..

الصـراعات في الساحة ليست فقط مع السلطة، والإشكالية ليست في آليات العمل السياسي، ولا في أن ثمة تضييقاً على الحضور الإسلامي، وأنه لا تتاح له فرصة أن يكون له حضور سياسي مؤثر.. ولكن مؤامرات القوى الخارجية؛ العديدة والمتنوّعة – التي تستهدف الهُوية الأخلاقية والدينية للشعب – هي الأخطر، ويجب أن نكون نحن على وعي شديد بها.. إنه من المؤسف حقاً، في ظل وجود كل هذه الأخطار والتحديات؛ في ظل هذا الهجوم الجماعي العالمي والمؤامرات الدولية الموجودة على الهُوية الإسلامية، والأمة الإسلامية.. من المؤسف حقاً، ومن الحيف، أن نتنازع نحن فيما بيننا، ونترصد الصغائر، ونضخّمها أمام بعضنا البعض.. من الحيف أن تطيح الحساسية الفِرَقية والحزبية والتحزّب بأخوّتنا الإيمانية.. ومن هنا من الضـروري أن نستفيد من رمضان، وأن نجعله محطة وموقفاً لبلورة هذه المعاني وتجسيدها.. وإصلاح هذه الحال.. إن كنّا ندّعي حقاً أننا نمثل مدارس ومحاضن للتربية، وتكوين الإنسان الصالح..

كلّنا أيّها الأعزاء – وأقصد الإسلاميين بشكلٍ عام – نمتلك الرغبة في خدمة الصالح العام، ونحمل نيّة الخير والإصلاح.. لا نية الخيانة، ولا نية التلاعب بالدين، أو الخداع.. وحتى إن وجدت أخطاء، أو زلات، أو اختلط بنيّاتنا ما يشوبها.. ولكن الإرادة هي إرادة الخير، إرادة الإسلام، إرادة تمكين شرع الله.. ينبغي أن ندرك موقعنا من ذلك الصـراع الأبدي القائم بين الحق والباطل، كما يجب ألّا نُصبح جزءاً من الباطل؛ سواء بوعي منّا وعلم، أم بغير علم.. إن رعاية أدب الاختلاف، والحِرص على صيانة جوهر تديننا، والمحافظة على رساليّتنا؛ هي ضرورة استراتيجية مهمة.. فإن لم يكن الأمر كذلك، فلا يستبعد أن نقع – دون أن نعلم – في مصيدة عدم تقبل بعضنا بعضاً، وتبادل الاتهامات بالانحراف، والغيبة.. ويقودنا ذلك إلى التفرقة، وإنتاج الفرقة.. والفرقة والتفرّق لا أمان لها، وتكون سبباً لغلبة هوى النفس، وغلبة الشيطان على نيّاتنا.. وآنذاك ننتصـر لأنفسنا.. وليس للرسالة والبرنامج والشـريعة.. أعاذنا الله من هذه الحال.. فهذا أمر خطير.. وداء وبيل..

 لذا، مرّة أخرى، نرجو من الله – سبحانه – أن يكون رمضان المبارك، في هذا التوقيت، وفي ظل وجود كل هذا الدم المسفوك بغير حق، وكل هذا التدمير الذي يقع في غزّة وفلسطين، وفي ظل وجود هذا النموذج المليء بالجمال والفداء والصبر والمرابطة في أرض فلسطين.. موسماً مباركاً..

عسـى أن نجعل من رمضان محطة للمراجعة، ولا ننشغل بالشعارات والشكليات، وأن نضع وحدة القلوب قبل وحدة الصف الشكلية؛ وندعو لبعضنا البعض، ونتوب ونقلع عن أي شيء يتعارض مع هذه الأهداف المباركة..

إن الإيمان – أيها الإخوة – مقدّس ومبارك، لا ريب.. ألا فلنعلم أن الأخوة الإيمانية هي في ذات المستوى.. وهي تتمة له، وتوأم.. إننا يجب أن نقرّ بأننا بشـر، نخطئ ونصيب، ولسنا معصومين.. وإذا كنّا نتوب إلى الله سريعاً، فإننا يجب أيضاً أن تكون لنا الجرأة على الاعتذار، وطلب الصفح من إخواننا؛ من أصحاب الحق، حتى إن لم يكونوا إخوة لنا في الدين؛ كأن يكونوا جيراناً، أو رفقاء سفر، أو غيره، مادام لهم حق علينا.. يجب أن تكون لنا جرأة الاعتذار، وطلب الصفح، وتصحيح الأخطاء..

لذا من المهم أن يكون رمضان.. الصوم.. لعلّكم تتقون.. أن تكون قادرة على القيام بتصويب السلوك، وتقويم الأخلاق.. من المهم ألّا نلجأ – من أجل إيجاد المبررات والأعذار – إلى كتب العصور السابقة، ونتشبث بأنّ العالِم الفلاني قال كذا، وأن الآخر قال كذا.. من المهم أن نكون واقعيين في عصـرنا.. أن نبتعد عن أي شيء يضـرّ بديننا، أو بوحدتنا، أو يشوّه وحدة قلوبنا..

الحمد لله، في كوردستان اليوم صحوة إسلامية جيِّدة؛ القرآن والسنة في مقامهمها اللائق والمقدّس.. من المهم أن نكون نحن في خدمة هذه الحالة، ونستمرّ، ونقدّم القدوة الجميلة لشبابنا.. كلنا؛ بمنظماتنا، وشخصياتنا، ودعاتنا، وبالأحزاب الإسلامية.. أن يقوم كل من جانبه بتأدية مسؤوليته، وأن ندعو بالخير لبعضنا البعض.. أن نكون نحن جميعاً جزءاً من الخير، وندعو بالبركة لأعمالنا، ونطلب التوفيق من الله..

 القرآن، الحجاب، الحياء، الدعوة، الإعلام الإسلامي، المؤسسات الخيرية، العلوم الشـرعية، المساجد العامرة، الحجرات العلمية، كل هذا موجود في كوردستان.. أن ندعمه، ونشد من أزره، ونصححه.. وإن كان فيه إشكال نعمل عليه، ونقوّمه.. أن نمسك أنفسنا عن اغتياب بعضنا بعضاً.. هذه ستأتينا بالنصـر من عند الله، إن شاء الله..

 مرة أخرى تقبّلوا سلامي واحترامي، ونرجو صالح دعائكم؛ دعاء حسن العاقبة، ودوام الاستقامة، للجميع، وأن يجعل الله – سبحانه – شهر رمضان محطة لانتصار أمة الإسلام على الآفات، وعلى نقاط ضعفها، وأن يهزم أعداء الدين، ويحبط مؤامراتهم، وأن يجعل أمة الإسلام مؤهلة للنصـر.. وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.

العدد ١٨٧ ǀ ربيع ٢٠٢٤ ǀ السنة الحادية والعشرون

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button