الصهيونية المسيحية ودعمها اللامحدود للصهيونية اليهودية
أ. د. فَرسَت مَرعي
المقدمة
برزت الجذور الاجتماعية السياسية للصهيونية غير اليهودية أولاً في المحيط الديني الذي كان سائداً في الدول الأنكلو ساكسونية البروتستانتية. ومع الأيام تطورت هذه الأفكار، وأصبحت جزءاً راسخاً من الثقافة الغربية، مع أن الصهيونية لم تهجر ميدان الدين والرمزية إلى العمل في السياسة إلا في القرن التاسع عشـر، وكان هناك توافق بين الصهيونية؛ كعقيدة قومية، والسياسة الاستعمارية السائدة.
والأساطير الصهيونية، التي بدأ غرسها في المرحلة السابقة للمؤتمر الصهيوني الأول بثلاثة قرون، في البيئة غير اليهودية، كانت متوافقة مع تلك التي أصبحت تشكل في النهاية المنطلق الروحي الباطني للصهيونية اليهودية السياسية، وهي أساطير (الشعب المختار)، و(الميثاق) و(عودة المسيح المنتظر). وقد جعلت أسطورة الشعب المختار اليهود أمّة مفضّلة على الآخرين، بينما كانت أسطورة الميثاق تركّز على الارتباط السـرمدي الدائم بين الشعب المختار والأرض المقدسة، كما وعد الله، وبذلك منحت فلسطين لليهود كأرض كتبت لهم. أما أسطورة عودة المسيح، فقد كفّلت للشعب المختار أن يضع حداً لتشـرّده في الوقت المناسب، ليعود إلى فلسطين لإقامة وطنه القومي هناك إلى الأبد.
لقد بدأت الصهيونية المسيحية تتخذ شكلاً متميزاً في أوائل القرن السادس عشـر، حين تضافرت حركة النهضة الأوروبية، وحركة الإصلاح الديني، على إرساء التاريخ الأوروبي الحديث. وقد أثار الاهتمام بالأدب التوراتي، وتفسيره، اهتماماً عاماً باليهود، وعودتهم إلى فلسطين. وعلى ذلك، لم يعد تحرير اليهود – إعطاء حقوق المواطنين – هو لبّ المسألة اليهودية، في القرن السادس عشـر، بل الدور الذي كتب على اليهود أن يقوموا به، بشأن القضايا الجديدة لتحقيق نبوءات التوراة واليوم الآخر وعودة المسيح. وعلى هذا، فإن حركة الإصلاح الديني البروتستانتية، بإتاحتها الفرصة للنهضة اليهودية القومية، وعودة اليهود الجماعية إلى (فلسطين)، هي التي ابتدأت سجلاً جديداً للصهيونية غير اليهودية، كعنصـر مهم في اللاهوت البروتستانتي، والإيمان بالأخرويات؛ كالموت، والخلود، ونهاية العالم، واليوم الآخر. وتقف هذه الأطروحات البروتستانتية اللاهوتية على طرفي نقيض مع الأطروحات الكاثوليكية، من الناحية اللاهوتية، ومن المواقف الفاتيكانية المتبدلة تجاه الصهيونية وإسرائيل .
أولاً: البعد الديني للدعم الأمريكي والأُوروبي لإسرائيل
بدأ نفوذ الصھیونیة یتغلغل في المسیحیة، عن طریق انشقاق أستاذ اللاهوت، الراهب والقس الألماني (مارتن لوثر) ( 1483-1546م)، مُطلق عصـر الإصلاح في أوروبا، من بعد اعتراضه على صكوك الغفران التي كانت تصدرها الكنيسة الكاثوليكية. نشـر في عام 1517م رسالته الشهيرة، المؤلفة من خمسِ وتسعين قضيةً، يتعلق أغلبها بلاهوت التحرير، وسلطة البابا في الحل من (العقاب الزمني للخطيئة). وقد أدى به رفضه التراجع عن نقاطه الخمس والتسعين تلك، بناءً لطلب البابا ليو- ليون العاشـر ( 1513 – 1521م)، عام 1520م، والإمبراطور شارل الخامس، إلى النفي، والحرمان الكنسـي، وإدانته، مع كتاباته، بوصفها مهرطقةٍ؛ كنسيًا، وخارجةٍ عن القوانين المرعيّة في الإمبراطوريّة.
وكان البابا (ليو العاشر) فردا ًمن (آل دى ميديتشـي)؛ ذوي النفوذ والسلطة آنذاك، وكان له ميل شديد نحو حياة البذخ والترف، كما كان مفتوناً بكل ما هو باهض الثمن ومكلف، وذهب به الأمر إلى درجة أنه كان يموّل الأعمال الفنية السائدة آنذاك من مال الكنيسة الخاص. غير أن نفقاته تلك تسببت بعجز مالي كبير في خزينة الفاتيكان، ومن أجل إعادة الأمور إلى نصابها، اعتمد البابا (ليو) بشكل كبير على إصدار وبيع (صكوك الغفران)، وهي صكوك كانت الكنيسة تبيعها مقابل طلب المغفرة للمخطئين في حقها وحق تعاليم المسيحية، كما كان الناس يشترونها كذلك من أجل (تنجية) أحد الأقارب المتوفين من عقاب الرب، أو إخراجهم من (منطقة البرزخ)، التي يزعمون أنها منطقة تيْهٍ تتوسط الحياة والموت. وتسبب هذا في إثارة موجة غضب عارمة، هاجم فيها الكثيرون البابا (ليو العاشر)، وكان من بين المناهضين لفكرة صكوك الغفران هذه (مارتن لوثر)، الذي أدت مؤلفاته، بعنوان (95 رسالة)، إلى إطلاق شرارة ما عرف لاحقاً بإعادة الهيكلة البروتستانتية، وتسببت في انقسام الكنيسة الكاثوليكية.
عندها أرسل (مارتن لوثر) رسالة إلى البابا (ليو العاشر)، في (روما)، سنة 1520م، اتهمه فيها باستعمال الكنيسة الكاثوليكية لتحقيق مصالح شخصية؛ له وللحاشية التي تحيط به، مؤكداً أنه لن يتخلى عن نضاله لتقويض تلك الكنيسة، مادام حياً؛ فجاء رد فعل الكنيسة الكاثوليكية قاسياً، حيث اعتبرت (لوثر) من الخارجين عن الكنيسة، وطردته من الديانة المسيحية، واتهمته بالهرطقة، وهي تهمة كانت عقوبتها آنذاك الحرق على الملأ. ولجأ (لوثر)، بعد ذلك، إلى العمل السـري، وعمل على استمالة بعض اليهود – الذين كان لهم نفوذ كبير في المجتمع الألماني – عن طريق التأكيد على أن مذهبه الجديد يعيد الاعتبار لليهود، الذين كانوا يعانون من غصب المسيحيين، وازدراء الكنيسة الكاثوليكية.
ثم أصدر (لوثر) كتابه (عيسـى ولد يهودياً)، سنة 1523م، وقال فيه: إن اليهود هم أبناء الله، وإن المسيحيين هم الغرباء الذين عليهم أن يرضوا بأن يكونوا كالكلاب التي تأكل ما يسقط من فتات من مائدة الأسياد. ويرى الكثير من الكتاب والمؤرخين أن هذه الفترة تعد الولادة الحقيقية والفعلية للصهيونية المسيحية، التي سبقت الصهيونية اليهودية. وكان أخطر ما حملته مطالب (لوثر)، دعوته للعودة إلى كتاب (التوراة) العبرانية القديمة، وإعادة قراءته بطريقة جديدة، بالإضافة إلى اعتماد الطقوس العبرية في الصلاة، عوضاً عن الطقوس الكاثوليكية المعقدة.
وتتطرق الكثير من المصادر التاريخية إلى أن رغبة (مارتن لوثر) الجامحة في إعادة الاعتبار لليهود، و(تمسيحهم)، كانت تعود لإيمانه العميق بضـرورة وجودهم في هذا العالم تمهيداً لعودة المسيح، واعتبرت دعواته تلك انقلاباً على موقف الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تنظر لليهود على أنهم حملة لدم المسيح عيسـى بعدما صلبوه. حيث دأبت الكنيسة الكاثوليكية على تحميل اليهود المسؤولية الكاملة عن مقتل المسيح. وكان بعض المسيحيين في أوروبا يحتفلون بمقتل المسيح عن طريق إحياء طقوس عملية الصلب، بل وكان سكان مدينة (تولوز) الفرنسية يحرصون على إحضار يهودي إلى الكنيسة أثناء الاحتفال، ليتم صفعه من قبل أحد النبلاء بشكل علني، إحياء لطقس الضرب الذي تعرض له المسيح من قبل اليهود.
كما أن هناك نصاً في (إنجيل متى) يحمّل اليهود مسؤولية مباشرة عن مقتل المسيح: {32 وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. 33 وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ» 34 أَعْطَوْهُ خَلًا مَمْزُوجًا بِمَرَارَةٍ لِيَشْـرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْـرَبَ. 35 وَلَمَّا صَلَبُوهُ، اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». 36 ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. 37 وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً: «هذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ». 38 حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ؛ وَاحِدٌ عَنِ الْيَمِينِ، وَوَاحِدٌ عَنِ الْيَسَارِ}. (متى 27: العدد 32 – 38)، ويذكر بالتفصيل كيف غسل (بيلاطس)؛ الحاكم الروماني للقدس آنذاك، يديه بالماء، معلناً براءته من دم المسيح؛ الذي كان اليهود على وشك صلبه، قبل أن يصيح فيه اليهود قائلين: {ليكن دمه علينا، وعلى أولادنا}.
وهذه العبارة الأخيرة تطبع الاعتقاد المسيحي الكاثوليكي بشكل مرير، ظهر جليّاً في الشعبيّة الكبيرة التي نالها فيلم (آلام المسيح)، للمخرج المسيحي (ميل غبسون)، الذي حصد مئات الملايين من الدولارات، عدا حالات الإغماء الكثيرة التي شهدتها قاعات السينما التي عرضت الفيلم في (الولايات المتحدة).
لكن بعد ذلك تغيّر رأي (لوثر) عن اليهود، عندما اطّلع على أحوالهم وممارساتهم عن كثب؛ لذلك نشـر كتابين تحت عناوين: (اليهود وأكاذيبهم)، و(الاسم المقدس، ونسب المسيح)، جمعه من عدد كبير من المقالات، وكلاهما نشـرا في عام 1543م، أي قبل ثلاث سنوات من وفاته. قال فيها (لوثر): بأن اليهود لم يعودوا شعب الله المختار، وإنما “أناس الشيطان”، ودعا لإحراق الكُنُس اليهودية، وتدمير منازلهم، ومنع الحاخامات من الوعظ، والاستيلاء على أملاكهم. ووصفهم بأنهم (الديدان السامة) التي يجب أن “تعمل، أو تطرد إلى الأبد”، وبيّن أنه “من الخطأ عدم قتلهم”.
إن مؤلفات (مارتن لوثر) الأخيرة تركت تأثيرًا على أتباعه حتى بعد وفاته، فعلى الرغم من أن السلطات المدنية آنذاك رفضت طرد اليهود بناءً على اقتراح (لوثر)، فإن أعمال شغب اندلعت خلال عقد 1580م، تعرّض خلالها اليهود لطرد جماعي من المقاطعات الألمانية اللوثرية. وبحسب عدد كبير من المؤرخين، فإن شعبية (مارتن لوثر) كان لها الأثر البالغ في تطوير معاداة السامية في (ألمانيا). وخلال فترة 1930-1940م استخدم الحزب النازي الألماني كتابات لوثر، لتكون (الدعامة المثالية) لمعاداتهم الساميّة، ومحاولات القضاء على اليهود. وهذا ما حدث فعلاً في الإبادة النازية لليهود (= الهولوكوست)، في سنوات الحرب العالمية الثانية، والتي دفع ثمنها الفلسطينيون المسالمون، فيما بعد، خلال أكثر من سبعين عاماً.
وبحسب (روبرت مايكل)، فإن كل كتاب مطبوع خلال حكم الحزب النازي، بقيادة المستشار الألماني (هتلر)، يحوي اقتباسات من كتابات (لوثر)، من عام 1919 لغاية 1945م. وفي 10 نوفمبر/ تشـرين الثاني عام 1938، تزامنًا مع عيد وفاة (مارتن لوثر)، أُحرقت العديد من الكنس في (ألمانيا). ووفقًا للمؤرخ الألماني (جيري ديك)، فإنّ النازية حصلت على دعمها الشعبي، والكم الأكبر من أصواتها، من المقاطعات البروتستانتية في ألمانيا، خلافًا للمقاطعات الكاثوليكية.
وفي المقابل، فإن بعض المؤرخين برّأ (مارتن لوثر) من كونه أصَّل معاداة السامية، وقال إن تأثير كتبه عن اليهود كان محدودًا ومؤقتًا، لكنّ النازيين استغلوا اسمه بشكل انتهازي. فكاتب سيرته (مارتن بريخت)، أشار إلى وجود فرق شاسع بين اعتقاد (لوثر) بأن اليهود لن ينالوا الخلاص، وبين الكراهية لهم على أساس عنصـري. ورغم محاولات التبرير هذه، فإن صورة لوثر كمعادٍ للسامية، والمتسبب بالكراهية لليهود، لا تزال بارزة؛ ومن أصحاب الآراء الشهيرة في هذا الخصوص (رولاند باينتون)، وهو مؤرخ كنسـي لوثري، قال: “إنه يتمنى لو كان لوثر قد مات قبل أن يضع كتابه (عن اليهود وأكاذيبهم)”.
وابتداءً من سنة 1980م فما فوق، تنكرت الكنائس اللوثرية لتصـريحات (مارتن لوثر) حول اليهود، ورفضوا استخدامها للتحريض ضد اليهود، أو اليهودية، بأي شكل من الأشكال.
وعلى أية حال، تقوم الصهيونية المسيحية على تفضيل الطقوس العبرية في العبادة، على الطقوس الكاثوليكية، فضلاً عن دراسة اللغة العبرية على أساس أنها كلام الله. وتشير الكثير من المصادر التاريخية إلى أن رغبة (مارتن لوثر) الجامحة في إعادة الاعتبار لليهود، و(تمسيحهم)، كانت تعود لإيمانه العميق بضـرورة وجودهم في هذا العالم، تمهيداً لعودة المسيح المنتظر.
المذھب البروتستانتي ھو المذھب الذي یدین به الیوم غالبية الأمريكيين، والكنديين، والبريطانيين، والألمان، والهولنديين، والسويديين، والدانمركيين، والنرويجيين، والآيسلنديين، وغيرهم، ولكن داخل ھذا المذھب شيع كثیرة؛ تُعدّ بالعشـرات، منھا ما لا یمكن فصل عقیدتها عن الیھودیة، أو الصھیونیة، لفرط الاشتباك والتفاعل بینھا. أما الأدبیات الیھودیة، التي تسـرّبت إلى صمیم العقیدة المسیحیة البروتستانتیة الصھیونیة، عبر ھذه الفرق، فھي تدور حول محاور ثلاثة:
الأول: ھو أن الیھود ھم شعب الله المختار، وأنھم یكّونون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم، فمھما فعلوا وعملوا لا یمكن انتقادھم.
الثاني: ھو أن ثمة ميثاقاً إلھیاً یربط الیھود بالأرض المقدسة في فلسطین، وأن ھذا المیثاق الذي أعطاه الله لإبراھیم – علیه السلام – ھو میثاق سرمدي حتى قیام الساعة. وعلیه، من واجبات المسیحیة الصھیونیة تسھیل ھجرة الیھود الى فلسطین من جمیع النواحي، ومنھا: افتتاح مكاتب للھجرة الیھودیة إلى الأراضي المقدسة.
الثالث: ھو ربط الإیمان المسیحي بعودة السید المسیح، بقیام دولة صھیون سنة 1948م، واحتلال الجانب الشـرقي من القدس في 6/6/ 1967م، أي: بإعادة تجمیع الیھود في فلسطین، و(بناء هيكل سليمان)، حتى یظھر المسیح فیھم. فقیام دولة إسرائیل، واحتلال القُدس، ھو شرط جوھري لنھایة سنوات المنفى الیھودیة، والعودة المنتظرة للماشيح (= المسيح)، ومن أجل ذلك ینبغي تقدیم كل أنواع الدعم إلى اليهود.
ومن جانب آخر، يصـرّ البروتستانت أن (إسرائيل الجديدة) ليست الكنيسة المسيحية، كما اعتبرها مجازاً القديس (أوغسطين)، فبالنسبة إليهم هي بنو إسرائيل “المفترض عودتهم” إلى (فلسطين)، لإقامة مملكة الله على الأرض، جغرافياً وليس مجازاً. وهــو ما اعتبروه مقدمة ضرورية للمجيء الثاني، ولتحقيق المملكة الألفية السعيدة (رؤيا الفصل. أما الكنيسة بالنسبة إلى البروتستانت، فهي مملكة الله السماوية، في حين أن (إسرائيل) هي مملكة الله الجغرافية على أرض فلسطين. وبالتالي، أصبح البروتستانت من أشد أنصار إسرائيل حماساً ودعماً لها.
ولما كانت الخطة الإلهية عند الغرب تقتضـي المجيء الثاني للمسيح، فيلزم -بالضـرورة- أن يسبقه اليهود (الشعب المختار) إلى (فلسطين)، تمهيداً لعودته. والنتيجة أن (عودة) اليهود لفلسطين مرغوبة، ومطلوبة، ليس لجدارتهم، واستحقاقهم، وإنما تحقيقاً للنبوءات التي تفرض عليهم أن يلعبوا دوراً مهماً في “الخطة الإلهية لخلاص البشرية”! فالمسيح لن يعود إلى فلسطين إلا إذا عاد اليهود لها، حسب اعتقاد الأصوليين المسيحيين في الغرب. ذلك أن (نهاية التاريخ)، التي تنبأ بها (بولس) منذ ألفي عام، ترتكز أولاً وآخراً على إنشاء وطن يهودي في فلسطين يستطيع المسيح أن يعود إليه، ومنه يتضح ضآلة الفارق بين عقيدة اليهود وعقيدة البروتستانت حول هذه النقطة؛ فبينما ينتظر اليهود المجيء الأول لمسيحهم، يتطلع البروتستانت إلى مجيئه الثاني، كي ينقذ اليهود من ضلالهم!
وعلى المستوى العملي ترجم الأصوليون الأوربيون، وبالتالي الأمريكيون، عقيدتهم إلى عمل، فقد شعروا أن من واجبهم لعب دور عملي ونشط في تحقيق النبوءات، وتسـريع المجيء الثاني، سعياً وراء إنشاء المملكة الألفية السعيدة، التي تنبأ بها (يوحنّا) في (رؤياه). ولم يكن هذا الحماس المتجدد منحصـراً فقط على المستوى الشعبي، ولا على مستوى الكهنوت الدعاة، ولكن تجاوزه إلى الزعماء السياسيين، وكبار القادة، والمستعمرين، والرحالة، والأكاديميين!
كان الأمريكيون الأوائل، الذين تسمّوا حجاجاً؛ في هجرتهم من أوروبا إلى أمريكا، يشبهون أنفسهم بقبائل إسرائيل التائهة، ومن قبيل المجاز – أو الاستعارة – قارنوا المحيط الأطلسي بصحراء سيناء، والأرض الجديدة بأرض كنعان، أي الأرض الموعودة.
ومنذ عام (١٨٥٣م) كتب محرر المجلة الطبية للجراحين، في (بوسطن): “لقد عبرت مراراً عن ملاحظاتي فيما يتعلق بمستقبل أرض الميعاد، فأنا أؤمن إيماناً عميقاً بوجوب (إعادة) اليهود نهائياً إلى فلسطين، وإعادة إنشائهم كأمّة”. وكتب أيضاً: “من المؤكد أنه ما لم يتم اقتلاع السكان الحاليين من الأرض – الموعودة، وإحلال سلالة جديدة مكانهم، فإن الكتاب المقدس لن يكون معتبراً من قبل الأقلية، والتي بدورها لن يكون لها تأثير يُذكر في تغيير تقاليد وعادات المجموع”.
وعلى الأرض، كان بعض المبشـرين والرحالة الأمريكيين واثقين من نجاح خططهم الطموحة، فبعد أن يئس أكثرهم من تحويل المسلمين إلى المسيحية، كتب بعضهم: “من الأسهل تحويل القرميد إلى حجارة، فليست إرادة الله أن يتحول المشـرق إلى المسيحية”. والحل الذي اقترحه بعضهم لـم يكـن سـوى: اقتلاع السكان الأصليين من أرضهم، وجلب سلالة “أفضل” إلى المشـرق”. وقد صوروا السكان المحليين؛ من الترك والعرب والمسلمين، بأشكال مختلفة، تراوحت من البراءة إلى التوحش، فقد كتب أحدهم: “هؤلاء السكان الهمج يذكرونني على الدوام بالهنود الحمر”.
أما (هنري جيسب/ Henry Jessup) (1857 – 1910م)، مؤلف (ثلاثة وخمسون عاماً في سورية)، و(Mohammadan Missionary Problem1879 )، والدكتور (جون باركلي/ Barkley)، في كتابه (City of Great King ،1858)، فقد وضعا خطة مفصلة لمستقبل المشـرق، بما فيها تقسيم المنطقة بين الدول الغربية؛ ومن ضمنها روسيا، وتجميع اليهود في فلسطين، استعداداً لإنشاء مملكة الله على الأرض. حتى أن بعضهم رسم حدود إسرائيل من النيل إلى الفرات، ومن جبل آرارات إلى بحر العرب، وخططوا لمشاريع سكك حديدية تربط إسرائيل بالغرب.
وكان المفهوم أن مصير المشـرق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصير الولايات المتحدة، وأن على الولايات المتحدة أن تلعب بذلك دوراً “رسمته يد الله”، فالمشـرق مثل الغرب الأمريكي: “كان مقدراً له أن يكون نقطة التقاء الأنجلو – ساكسون في مسيرتهم نحو مغرب ومشـرق الإمبراطورية. “وأما الدور الأمريكي، فهو تحقيق (حلم صهيون)، ويترتب على المبشـرين – الأصوليين – إنقاذ نفوس المسلمين التائهة”. ولم يكن عجيباً على سبيل المثال – لداعية الحقوق المدنية الأسود (مارتن لوثر كنج) الأصغر، أن يقول، عام (1968م)، في خطبة مؤثرة شهيرة له: (إنني أرى الأرض المقدسة).
لقد ترسخت مثل هذه المفاهيم في العقل الغربي خلال القرون الأربعة الأخيرة، وأصبحت منطلقاً لأنشطة تبشيرية، ثم اكتسبت هذه الأنشطة لدى المسيحية المتصهينة عند الغربيين، أو المسيحية الأصولية، في نصف الكرة الغربي، زخماً كبيراً خلال القرن التاسع عشـر. وتحوّلت في القرن العشـرين إلى مجريات سياسية فاعلة، توّجت بإنشاء إسرائيل، بدعم غير مشـروط من الغرب عامة، ومن الولايات المتحدة خاصة.
والخلاصة، أن الاستشـراق الأمريكي تطوّر خلال القرن الحالي إلى مصطلح لغوي قائم بذاته، وهو يتضمن أنشطة عديدة؛ فكرية، وأكاديمية، وسياسية، ودينية. وتعتبر الجمعية الأمريكية لدراسات الشـرق الأوسط Middle East Studies Association of America ، المنظمة الأمّ لعدة مؤسسات أكاديمية أحرزت قفزات ضخمة في مجال دراسات الاستشراق.
فقد كان كل من الرؤساء الأمريكيين السابقين: (جون آدامز) (۱۷۹۷-۱۸۰۱م)، و(توماس جفرسون) (۱۸۰۱ – ۱۸۰۹م)، عضوين في لجنة تأسست عام ١٧٧٦م لغرض انتقاء شعار للأمة الأمريكية الجديدة، فأوصى كلاهما أن يكون الشعار صورة للنبي موسى وهو يقود اليهود الهاربين من فرعون مصـر! وفي مناسبات عديدة، أبدى (جون آدامز) رغبته المخلصة لإعادة اليهود إلى (أرض يهوذا – فلسطين)، كأمة مستقلة. ومن جهته رأى (بنيامين فرانكلين)؛ الدبلوماسي الأمريكي، أن يكون الشعار صورة موسى وهو يشق البحر الأحمر بعصاه!.
وفي العام (١٨٤٨م)، عمل (واردر كريسون/Warder Cresson)؛ القنصل الأمريكي في القدس، على تأسيس مستعمرة يهودية في فلسطين، مولتها جمعيـة مسيحية يهودية في إنكلترا. وفي العام (۱۸۹۸م)، كتب (إدوين شيرمان والاس/ Edwin Sherman Wallace)، القنصل الأمريكي في فلسطين، أيضاً: (أرض فلسطين بالانتظار، والشعب جاهز للقدوم).
وفي إنكلترا صرّح (أوليفر كرومويل /Oliver Cromwell)، عام 1650م، بصفته اللورد المدافع عن الكومنويلث الجديد Lord Protector أن الوجود اليهودي في فلسطين سوف يكون مقدمة للمجيء الثاني للمسيح! وقد حثّه أحد أعوانه على نقل المعركة إلى أرض كنعان.
وفي عام (۱۸۳۹م) قام اللورد (أنتوني أشلي كوبر/ Anthony Ashley Cooper)، إيرل شافتسبري السابع، والمعروف في إنكلترا بلقب المصلح الأكبر، قام بحثّ اليهود على الهجرة إلى (فلسطين)، إذ رأى فيهم أمل المسيحية في الخلاص، لأنهم سيلعبون دوراً هاماً في (الخطة الإلهية) للمجيء الثاني، وزعــم أن فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض. وقد عمل على إنشاء قنصلية بريطانية في القدس، كان النائب الأول للقنصل البريطاني فيها (وليام يونج/ William Young)، وهو رجل دين بروتستانتي متعصب، وكان من أحد مهامه بسط الحماية على (٩٦٩٠) من يهود فلسطين، وهو عددهم الإجمالي آنذاك.
ومنذ عام ( ١٨٤٥م) اقترح (إدوار ميتفورد/ Edward Mitford)، المعيّن في مكتب لندن للمستعمرات الإنكليزية، إنشاء دولة يهودية في فلسطين، تكون تحت حماية بريطانيا، وقال إنّ هذه الدولة ستضع بريطانيا في وضعية قيادية في المشـرق، تمكّنها من إيقاف التعديات، وإرهاب الأعداء، ووقف تقدمهم عند اللزوم!
أما (لورنس/ T.E. Lawrence)، عميل المخابرات البريطانية في الجزيرة العربية خلال الحرب العالمية الأولى، والذي لقبوه زوراً وبهتاناً (لورنس العرب)، فقد كتب: “كم أتعبني هؤلاء العرب، إنهم تجسيد للساميين المنحطين… إن العقل العربي شاذ وغارق في الظلمة والكآبة والاعتزاز المفرط بالنفس، ويفتقر إلى قواعد المنطق”. وعن دوره في قيادة الثوار العرب ضد العثمانيين، كتب: “بما أنني لست مغفلاً، فقد كان واضحاً منذ البداية أنه في حال فوزنا بالحرب، فستصبح الوعود التي قطعناها للعرب حبراً على ورق. ولو كنت مستشاراً شريفاً -للعرب -، لعملت على تسـريح رجالي من الثوار، ولما جعلتهم يجازفون بأرواحهم لمثل هذا الهدف!”. ويكفي أن نعلم عن رئيس الوزراء البريطاني (لويد جورج/ Lloyd George ) (١٩١٦ – ۱۹۱۹م )، الذي صدر في عهده (وعد بلفور)، أنه تربى في مدرسة كانت تعلّم الطلاب تاريخ اليهود أكثر من تاريخ إنكلترا. وقد علّق الزعيم اليهودي (حاييم وايزمان/ Weizmann)، بعد أن التقاه لأول مرة: أنه قابل رجلاً لا تقدر قيمته بثمن تجاه القضية اليهودية.
وأما (بلفور) نفسه (Arthur James Balfour)، الذي كان وزير الخارجية البريطاني (۱۹۱٦ – ۱۹۱۹م)، وصاحب الوعد المشؤوم المعروف باسمه، فقد تربّى بروتستانتياً متزمتاً منذ طفولته، وبفضل تنشئته البروتستانتية كان مطلعاً تماماً على كتب العهد القديم، إذ اعتاد على رؤية والدته وهي تقرأ العهد القديم مراراً وتكراراً، مما كان له أكبر الأثر عليه، وقد وصفها بأنها امرأة شديدة الالتزام والتدين، وكان مقتنعاً تمام الاقتناع أن عودة اليهود إلى فلسطين، مقدمة ضرورية للمجيء الثاني. وقد ذكرت ابنة أخته، التي كتبت قصة حياته، شدة إيمانه بأن المسيحية مدينة لليهودية بالشـيء الكثير، وأنه من المعيب أن المسيحية لم تكافئ اليهودية بما فيه الكفاية.
أما (وودرو ولسون/ Woodrow Wilson)، الرئيس الأمريكي خلال فترة (١٩١٣- ۱۹۲۱م)، فكان بروتستانتياً متزمتاً ومتعاطفاً مع اليهود بشكل سافر، ولذا سارع إلى تأييد (وعد بلفور)، في ٣١ آب/ اغسطس عام ١٩١٨م. فيما كان (هاري ترومان/Harry Truman)، الرئيس الأمريكي خلال (١٩٤٥ – ١٩٤٩م)، قد درس العهد القديم بعناية، ومن الأصوليين الذين عرفوا بأنهم مولودون ثانية، كان مؤمناً تماماً بمبررات قيام إسرائيل، وقد أبدى مشاعره هذه قبل أن يصبح رئيساً بزمن طويل. وقد يظن بعض الناس أن اعترافه الفوري بقيام دولة إسرائيل كان بتأثير اللوبي الصهيوني الأمريكي، أو سعياً وراء الأصوات الانتخابية اليهودية، في حين أنه كان نابعاً من إيمان ديني حقيقي.
أما (جيمي كارتر)، الرئيس الأمريكي خلال الأعوام (١٩٧٦ – ١٩٨٠م)، فكان أيضاً من الأصوليين البارزين المولودين ثانية، وفي خطاب ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي في آذار عام (۱۹۷۹م)، قال: نحن نشترك مع اليهود في تراث العهد القديم. وقد آمن أن إنشاء إسرائيل لم يكن سوى تحقيقاً لنبوءات العهد القديم، وأما السلام في الشـرق الأوسط، فلم يكن يعني له سوى ضمان استمرار الوجود الإسرائيلي الآمن بفلسطين. وعندما استقبل في (البيت الأبيض) رئيس الوزراء الإسرائيلي (مناحيم بيجن)، وعده أن الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل إلى الأبد، وقال في خطبة له: أنه منذ تدمير القدس في العام (۷۰م)، استمر اليهود في الصلاة، ليكون عامهم القادم في القدس، وأنهم عادوا أخيراً إلى أرض التوراة بعد ألفي عام من المنفى والشقاء والتمييز العنصـري ضدهم! وخلال زيارته (البوسنة والهرسك)، في (۱۹۹۲م)، وسيطاً بين الصـرب والمسلمين، أضاف (كارتر) إلى سجله المتحيز، أن خاطب الصـرب الذين نشطوا في جرائم الحرب وفظائع التطهير العرقي ضد المسلمين، فقال لهم معتذراً عن الولايات المتحدة: “إن الشعب الأمريكي قد أساء فهمكم”.
أما (رونالد ريجان)؛ الرئيس الأمريكي خلال (۱۹۸۰-۱۹۸۸م)، فكان من الأصوليين المؤمنين جداً بقرب تحقق المجيء الثاني للمسيح، وفق ما كتبه يوحنا في (رؤياه)، ووفق سيناريو (تل مجدوArmageddon) (رؤيا ١٦/١٦)، وكان لا يمل من الاستشهاد بنصوص من العهد القديم في كل مناسبة، والطريف أنه كما آمن (بولس) قبله بألفي عام بوجوب تحقق المجيء الثاني خلال سني حياته، أي حياة بولس نفسه، فقد آمن (ريجان) أيضاً أن المسيح سيعود خلال حياته هو، أي حياة (ريجان).
وفي 6 شباط فبراير – من العام ١٩٨٣م، أعلن الواعظ الأصولي (جيري فالويل) أنه يفضّل أن تضم إسرائيل إليها أجزاء من العراق وسورية وتركيا والسعودية ومصـر والسودان والأردن والكويت ولبنان بكامله، وقال: “إن الله يبارك أمريكا، لأننا نطيعه في حماية ما هو ثمين بالنسبة له”، يقصد (إسرائيل). وبتاريخ 29/4/1998م، خلال الاحتفال بمرور خمسين عاماً على إنشاء دولة إسرائيل، خطب رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) أمام جمهوره، وكان من ضمنهم (آل جور Ale Gore)، نائب الرئيس الأمريكي، فقال: “كان الأمريكيون يتطلعون إلى (الأرض الموعودة الجديدة) مجازاً، ولكن هذه هي الأرض الموعودة حقيقة – يقصد فلسطين-. وكان الأمريكيون أيضاً يتطلعون إلى (المدينة التي على الهضبة) مجازاً، ولكن القدس هي (المدينة التي على الهضبة) حقيقة”. ولم يكن مستغرباً أن قابل (آل جور)، وزوجته، هذا الكلام بتصفيق حاد.
وقس على ذلك عقيدة الرئيس (كلينتون)، الذي كان صهيونياً واضحاً إلى حـــد تبجحه بذلك أمام الكنيست الإسرائيلي، مثلما كان قبله الرئيس (بوش) الأب، وبعده الرئيس (بوش) الابن، من الأصوليين المولودين ثانية. وقد ذكر (أفنيري)؛ داعية السلام الإسرائيلي، أن الرئيس بوش الابــن يعتبر نموذجاً لليمين الأصولي المسيحي.
وعلى أية حال، ففي الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي (بيل كلينتون) الديمقراطي أمام الكونغرس اليهودي عام 1994م، قال “إن الرب لن يسامحنا إذا تخلينا عن إسرائيل؛ لأن إرادة الرب أن تكون إسرائيل هي الوطن الإنجيلي للشعب اليهودي إلى الأبد، لذلك ستقف أميركا معها دائماً”. ولم يعترض أحد في الولايات المتحدة الأميركية على استخدام (كلينتون) لهذه المصطلحات الدينية، باعتبارها تشكل تحدياً للعلمانية! وهذا يوضح أن البعد الديني للعلاقة بين أميركا وإسرائيل تحظى باتفاق داخل الولايات المتحدة، وأن الأمر لم يكن بلاغة خطابية استخدم فيها كلينتون اللغة الدينية.
وهنا يتساءل المراقبون، ويطرحون سؤالاً غريباً: (ما دور الدين في تشكيل العلاقات الأميركية الإسرائيلية)؟ في عالم يروّج للعلمانية باعتبارها من أهم أركان ثقافة العولمة، هناك كثير من الأدلة على أن الدين يقوم بدور مهم في تشكيل العلاقات الدولية، لأن الجذور التاريخية لهذا الخطاب تبنّته الكثير من الجماعات الدينية المسيحية خلال القرن التاسع عشـر، وهو يقوم على أن المسيحيين واليهود شركاء في تنفيذ خطط الرب، وأن اليهود يعيشون في منفى بعيداً عن أرضهم. وبالتالي، فإن كلام الرؤوساء الأمريكان، وساستهم الآخرين، هو صدىً لها.
يقول (دانيال هوميل): إن الرؤية الدينية شكلت العلاقات الخارجية الأميركية منذ نشأة الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشـر على يد اليهودي النمساوي (ثيودور هرتزل)(1860 – 1904م)، وأسهمت هذه الرؤية في تزايد تأييد أميركا ومساندتها للحركة الصهيونية خلال الثلاثينيات من القرن العشـرين، وفي تحيز أميركا المستمر لإسرائيل بعد إنشائها عام 1948م، وفيما بعد.
ولقد أسهم موقف أميركا السلبي من الإسلام، في تقوية علاقاتها بإسرائيل؛ وهذا ما يبدو واضحاً في العلاقة بين أميركا وإسرائيل، رغم أن الجالية الإسلامية أكبر عدداً من الجالية اليهودية، ولكن الدين، أي العلاقة الخاصة التاريخية بين اليهودية والبروتستانتية، وتحديداً الإنجيليين منهم، واللوبي اليهودي، ورؤوس الأموال اليهودية؛ لها دور كبير في تشكيل السياسة الخارجية لأمريكا، والدول الغربية البروتستانية المتحالفة معها.
والخلاصة أن حركة الإصلاح الديني البروتستانتية زودت اليهود بفرصة تاريخية نادرة وفريدة، حصلوا بنتيجتها على الاحترام، والدعم الهائل، وغير المشـروط، من المسيحية الغربية، بسبب إيمان الأصوليين بالدور الكبير المفترض أن يلعبه اليهود في سيناريو (المجيء الثاني)، فاليهود حصلوا على (فلسطين) باعتبارها (الأرض الموعودة)، والمسيحيون الأصوليون ضمنوا بذلك تحقيق عودة المسيح الوشيكة!
والأخطر من ذلك حالیاً، ھو اعتقاد المسیحیة الصھیونیة، وفي مقدمتھم رؤساء أمریكا، وبعض سیاسيیھا، أن إعادة بناء (الھیكل الیھودي) على أنقاض المسجد الأقصـى بات وشیكاً. فضلاً عن ذلك توسیع حدود (إسرائیل)، لتشمل لیس فقط الأراضي الفلسطینیة، بل على الأساس الحرفي لـ(سفر التكوین 18:15)، والقائل: “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلاً: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْـرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ”، وهذا يشمل أراضي كل من: مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق والمملكة العربية السعودية ( المدينة المنورة، وخيبر، تحديداً).
لذلك ما إن بدأت عملية (طوفان الأقصـى) على يد (حماس)، حتى بادر الساسة الغربيون؛ الذين يعتنقون المذهب البروتستانتي، ولو ظاهرياً بالاسم: الرئيس الأمريكي (جو بايدن)، ورئيس وزراء بريطانيا (ريشـي سوناكا – من أصول هندية)، ومستشار ألمانيا (أولاف شولتس)، مع الرئيس الفرنسـي الكاثوليكي (ماكرون)، إلى تقديم دعمهم المادي والمعنوي اللامحدود لإسرائيل، واعتبار عملية (طوفان الأقصـى) عملية إرهابية، والتصدي لها، واعتبار منفذيها لا يقلون دمويةً وتوحشاً عن تنظيم (داعش)، أي بعبارة أخرى: شيطنة المقاومين الفلسطينيين، وكأنهم هم الذين أذاقوا الإسرائيليين الويل والثبور طيلة أكثر من سبعين عاماً، وأن الفلسطينيين هم من احتل أرض إسرائيل!! وهذا ما أعطى الساسة الإسرائيليين الضوء الأخضر لشنّ أقسـى الهجمات، وأشدها فتكاً وتدميراً بالفلسطينيين العزل، المحاصرين منذ أكثر من خمسة عشـر عاماً متواصلة، دون أدنى دعم عربي وإسلامي، بل وإنساني، وأمام أنظار الإنسانية والأمم المتحدة جمعاء، دون وازع من ضمير أو وجدان أو إحساس بشـري، وكأنهم يكافحون الحشرات بالمبيدات الكيمياوية!!!.
ثانياً: العيد اليهودي (الحانوكا)، والاحتفال به في (البيت الأبيض)
عشية الاحتفال بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل
(حانوكا) كلمة عبرية تعني التدشين، أي بناء الهيكل اليهودي الثاني، الذي بناه (يهودا المكابي) سنة 160ق.م، وكان الهيكل الأول، الذي بناه – وفق معتقدهم – نبي الله سليمان (عليه السلام)، قد دمره الملك الكلداني البابلي (نبوخذ نصـر) عام 586، أو 587ق.م.
فهو عيد يهودي يستمر ثمانية أيام؛ من الخامس والعشـرين من (كسلو)، الذي يقابل شهر كانون الأول/ ديسمبر. والعيد – بحكم توقيته – يمكّن اليهود، وبالذات الأطفال، من الاحتفال بعيد يهودي في الفترة ذاتها التي يحتفل فيها المسيحيون بعيد الميلاد. والمناسبة التاريخية لهذا العيد هي دخول (يهودا المكابي167-160ق.م)، بن ماتيوس الحشموني، مدينة (أورشليم)، وإعادته للشعائر اليهودية في الهيكل. ويقال إن (يهودا المكابي) حينما دخل الهيكل وجد أن الزيت الطاهر (أي الذي يحمل ختم كبير الكهنة) لا يكفي إلا ليوم واحد، وكان من الضـروري أن تمر ثمانية أيام قبل إعداد زيت جديد، كما تنص التوراة، فحدثت المعجزة، واستمر الزيت في الاحتراق لمدة ثمانية أيام، بدلاً من يوم واحد، ولذلك صمم لهذا اليوم شمعدان خاص من تسعة فروع، ولأن هذه المناسبة تؤكد انفصال اليهود، ورفضهم للاندماج والتفاعل مع الحضارات الأخرى، فإننا نجد أن الصهيونية تبالغ في الاحتفال به.
ويُحتفل بالعيد في إسرائيل على أنه عيد ديني، قومي (عيد الأنوار)، فتوقد الشموع في الميادين العامة، وتنظم مواكب من حملة المشاعل، وأثناء الاحتفال يصعد آلاف الشبان إلى قلعة (ماساداه)، وهو مقطع صخري مرتفع يقع في صحراء القدس، بالقرب من الشاطئ الغربي للبحر الميت، ويمثل هذا المقطع الصخري بقايا مدينة حصينة يهودية يعود تاريخها إلى الهيكل الثاني، وهو يعتبر رمزاً للصمود البطولي وحب الحرية لمحاربي يهودا، وتبلغ مساحة قمة الجبل التي توجد فيها القلعة حوالي 80 دونماً، وطولها حوالي 600 متراً، وعرضها يتراوح بين 130/240م، وترتفع عن سطح البحر 462 متراً. وتفصل بين هذه القمة ومجموعة الجبال المحيطة بها أودية عميقة، وكان (يوناتان الحشموني) قد بنى عليها حصناً عام 42 ق.م، وزاد (هيرورودوتس) من تحصينها، وأقام لنفسه هناك قصـراً فاخراً، وقد تمركز في قلعة (مساداه) آخر المحاربين الذين ثاروا على الرومان، وقد حاصر الرومان القاعة مدة 3 سنوات، وعندما فقد المحاصَرون الأمل انتحروا جميعاً، وكان عددهم 960 شخصاً، يقودهم (أليعيزر بن بائير)، وذلك يوم 15 نيسان من عام73م. وفي العهد الروماني البيزنطي(70-635م) سكن هذا الجبل رهبان، حيث أقاموا عليه كنيسة صغيرة.
في عام 1954م أقيم من جديد (طريق الأفعى) إلى الجبل، وفي عام 1955م قام سلاح الهندسة الإسرائيلي بإعادة ترميم القلعة، وجرت في المكان حفريات أثرية واسعة، اكتشفت فيه خزانات مياه وأرزاق، ومقر (هيرودوتس)، وكُنَيس، وقصاصات من كتاب التوراة، وعملات، وغير ذلك. وفي عام 1970م تم شق طريق إلى الموقع الأثري يبدأ من (عراد)، وحتى الجانب الغربي من قمة الجبل. وفي عام 1970م تم تشغيل قطار هوائي من الجانب الشرقي للجبل.
لذلك من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه بعد يوم واحد فقط من توقيع الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) قرار الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للدولة العبرية (إسرائيل)، وتحديداً في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2017م، جرى في البيت الأبيض، وتحديداً في منزل صهر الرئيس الأمريكي ترامب: اليهودي (جارود كوشنر)، جرى احتفال رسمي بالعيد اليهودي الحانوكا (عيد الأنوار)، بحضور أسرة الرئيس الأمريكي، وبعض الساسة الأميركيين، ومن ضمنهم نائب الرئيس الأمريكي (مايك بنس)، بالإضافة إلى الحاخام اليهودي الأمريكي (سولوفيتشك)؛ القائد الروحي العاشر لليهود منذ الثورة الأمريكية، حيث ألقى الرئيس الأمريكي كلمة بهذه المناسبة، استهلها بقوله: “أعلم يقيناً الكثير من الأشخاص السعداء في القاعة.. القدس.. شكراً لكم، ميلانيا – زوجة الرئيس – وأنا، يسعدنا الترحيب بكم، وبالكثير من أصدقائنا الرائعين في البيت الأبيض، ونتمنى لكم حانوكا سعيداً جداً. وأعتقد أن هذه ستعتبر حانوكا فريدة بشكل خاص، وأنا أيضاً سعيد بأحفادي الوسيمين: (آرابيلا، وجوزيف، وثيوديور) الموجودون بيننا الليلة، بينما نحتفل معكم جميعاً بالتقاليد المقدسة، والتي يحتفلون بها كل عام في بيتهم مع (إيفانكا، وجارود).
الليلة نحتفل بالقصة المذكورة ببيوت اليهود بأمريكا وحول العالم، قصة بدأت قبل أكثر من ألفي عام، حيث قرر طاغية أن يعاقب احتفال اليهود بعيدهم بالموت، فدنس المعبد اليهودي؛ بما في ذلك أقدس الأقداس، لكن عدداً من اليهود انتفضوا وهزموا جيشاً عظيماً، وسريعاً استعادوا حريتهم، لكن معجزة المكابيين لم تنته، فأثناء إعداد المعبد وجدوا مقدار زيت يكفي إضاءة مصباح لليلة واحدة، لكنهم سرعان ما اندهشوا عندما وجدوا أن المصباح استمر في التوهج طوال ثمانية أيام، وهذه علامة على وجود الرب في منزله، وإشارة لإيمان ومرونة اليهود، لديكم إيمان ولديكم مرونة. معجزة الحانوكا هي معجزة إسرائيل، أحفاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب تحملوا اضطهاداً وظلماً لا يصدق، لكن لم تستطع قوة أبداً أن تسحق روحكم، ولا استطاع شر أن يطفئ إيمانكم أبداً، ولهذا فإن الشعب اليهودي يشع كالضياء على كل الشعوب. والآن أفكر فيما يجري، وفي الحب الذي يغمر إسرائيل، وكله يتعلق بالقدس. شكراً لكم نيابة عن كل الأمريكيين، أود أن أعبر عن مدى امتناني لمحافل اليهود في بلادنا، وأنتم ترعون عائلتكم، وتقومون بدعم مجتمعاتكم، وترفعون شأن بلدنا الحبيبة. الحانوكا هو الوقت الذي تحتفل فيه العائلات اليهودية حول العالم بمعجزة الماضي، ووعود المستقبل. نحن فخورون بالوقوف إلى جانب الشعب الإسرائيلي، ونجدد روابطنا الدائمة.
يشـرفنا اليوم أن يتواجد معنا القائد الروحي العاشر لليهود منذ الثورة الأمريكية الحاخام (سولوفيتشك)، شكراً لك أيها الحاخام، شكراً جزيلاً على وجودك معنا، لكنه سعيد جداً منذ (إعلان القدس عاصمة لإسرائيل) أمس، ولا يهمه إن أخطأت نطق اسمه.
وقال الحاخام (سولوفيتشك)، في معرض جوابه على كلمة الرئيس (ترامب): “إذا ذهبت للقدس اليوم، سترى أنه – بخلاف معظم يهود العالم الذين يضيؤون الشموع داخل بيوتهم – فإنهم في القدس يضيؤون الشموع كما كان يحدث في الأصل بالخارج، بجوار أبواب بيوتهم، وما يمثله ذلك هو فكرة يهودية أمريكية أيضاً، وهو أنه عندما يغادر أهل الإيمان بيوتهم، ويذهبون للميدان العام، فإنهم يأخذون معهم عقيدتهم وهويتهم الدينية، ولا يتركونها عند الباب، عندما يخرجون إلى العالم. وما يمثله هذا المساء، هو أننا كأمريكيين يهود، لا نأخذ فقط عقيدتنا معنا إلى المجتمع، وإلى العالم، لكننا نخرج هبّاً (بصورة جماعية) أيضاً من بيوتنا لبيتك أنت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بيت الشعب الأمريكي. ولهذا نشكرك سيدي الرئيس، وأنت أيتها السيدة (ميلانيا ترامب)، على كل ما يمثله هذا المساء لنا جميعاً، ولأن الحانوكا لم تبدأ بعد، فإننا لا نستطيع أن نقرأ الآن التبريكات على شمعدان الحانوكا بعد، لكن هناك تبريكتان نستطيع أن نقرأهما قبل أن يشعل أحفاد الرئيس هذا الشمعدان الجميل، والذي يمثل الكثير من التاريخ اليهودي، والتاريخ اليهودي الأمريكي، وأول تبريكة هي تبريكة تقرأ طبقاً للتعاليم اليهودية عندما نكون أمام حاكم الدولة، ويعلمنا الحاخامات أن نقرأ هذه التبريكة من أجل تذكيرنا بالرب الذي نستمد منه كل القوة والتميز، تماماً كما جاهد الآباء المؤسسون ليذكّرونا بأن حقوقنا كأمريكيين تستمد منه، وليس من الدولة. ولهذا، ففي حضـرة الرئيس ترامب نقرأ الأولى بالإنكليزية، ثم بالعبرية: “تبارك الرب إلهنا ملك الكون الذي أسبغ القوة والتميز على اللحم والدم (آمين).
التبريكة الثانية التي نقرأها، هي التي تقال طبقاً للتعاليم اليهودية عندما نتلقى بشارات سعيدة، ويقرأها كل اليهود في أول ليالي الحانوكا، ونستطيع تلاوتها الآن بسب البشارة السعيدة التي تلقيناها للتو (القدس تقع بالطبع في قلب وروح كل يهودي، وفي قلب اليهودية نفسها، ونحن نصلي ثلاث مرات يومياً لأجل إعادة بناء القدس). وضوء الحانوكا لا يمثل فقط ضوء اليهودية الخالد، وإنما ضوء القدس المشتعل في كل روح يهودية. وبما أننا قد تلقينا بشارة سعيدة جداً، لأنه لأول مرة منذ تأسيس دولة إسرائيل أعلن رئيس أمريكي بشجاعة ما أعلناه دائماً، وهو أن القدس عاصمة إسرائيلية، وبالتالي نشكر الرب الذي أبقانا إلى أن رأينا هذا اليوم السعيد، ونقول: طوبى لك يا ملك الكون الذي أحييتنا ورزقتنا ومكنتنا من أن نشهد هذه المناسبة. عندما أشعل الشمعدان، سأشعل الشمعة الأعلى، ثم يشعل أحفاد الرئيس (أولاد إيفانكا وجارود اليهودي) الشمعة الأولية، إشارة ببدأ ليالي الحانوكا. وبمجرد أن يشعل أحفاد الرئيس هذه الشمعة انضموا إلي في غناء أول مقطع من أحد أحب أغاني الحانوكا، وهي (مائوز تسور)، وأعني شاركوني الغناء، لأننا لا نريد أن نعرض الرئيس والسيدة الأولى للاستماع إلى صوتي أنا، فكل من يستطيع الغناء رجاءً انضموا إلي، سأشعل الشمعة، ثم خذوا الشمعة… يا ملاذي العظيم، يا خلاصي، إن الثناء عليك سعادة، أعد بناء بيت عبادتك، وهناك سأقدم هدية الشكر، وعندما تكون قد أعددت الذبح للعدو المرتد. ثم سأكمل غناء الترنيمة: تفاني المذبح. حانوكا سعيدة لكم.
ولكلمة الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) عدة اعتبارات، منها:
1- أنها جاءت بعد يوم واحد فقط من إعلانه القدس عاصمة أبدية وموحدة للكيان العبري.
2- أنه حاول اجتراح ما يسمى بالمعجزات! التي حدثت في التاريخ اليهودي (مسألة الزيت المقدس الذي كان يكفي لإضاءة المصباح ليوم واحد)، لكنهم سرعان ما اندهشوا عندما وجدوا أن المصباح استمر في التوهج طوال ثمانية أيام، وهذه علامة على وجود الرب في منزله).
3- أنه نسب إلى الطاغية، ويقصد به الملك السلوقي اليوناني (انطيوخوس الرابع 174-165ق.م)، معاقبة الشعب اليهودي، عن طريق منعهم من إقامة شعائرهم الدينية، ومنعهم من الختان، ومن قراءة التوراة، ومن الحفاظ على قدسية يوم السبت، ومن إجبارهم على أكل لحم الخنزير، ومن إلغاء عبادة (يهوه) في الهيكل في (أورشليم)، وعبادة الإله زيوس اليوناني. ونسـي أنه نفسه طاغية متكبر، لأنه يحارب عقيدة وفكر دين سماوي يربو عدد معتنقيه أكثر من 1700 مليوناً من البشـر، ويتهمهم بالإرهاب، وغيره من المصطلحات الجاهزة في مطابخ الساسة الغربيين، وأنه لا يحترم عقائدهم، ويتنكر لكل القرارات والمواثيق الدولية، قبل السماوية.
4 – أنه يكيل مسألة ما يسمى بالفكر المستنير أو الليبرالي بمكيالين؛ فبينما يؤكد على تمسك اليهود بهويتهم وعقيدتهم الدينية، المبنية على التوراة والتلمود، من خلال محاربة اليهود المكابيين، بقيادة (يهودا المكابي)، لبني جنسهم، وقتلهم، لأنهم اغترفوا من الفكر اليوناني الهلليني، ونبذوا عبادة إله اليهود (يهوه)، وساروا خلف الإله اليوناني (زيوس)، أي أخذوا بقيم الثقافة اليونانية – الهللينية. يحاول هو، ودعاة الحداثة والتنوير، ومن سار على منهجهم، إبعاد المسلمين عن المصادر الرئيسية للإسلام، المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية، عن طريق المجيء بإسلام متنور ليبرالي، على نهج الإدارات الأميركية بعد حادثة 11 سبتمبر/ أيلول 2001م.
5- يبدو أن الرئيس الأمريكي (ترامب)، بحكم عقيدته البروتستانتية الإنجيلية، مطّلع عن كثب على عقيدة وتاريخ اليهود، حيث تطرق في كلمته إلى المعجزة التي حصلت لهؤلاء اليهود، الذين اكتشفو أن الزيت الذي يضـيء الشمعدان المقدس، لا توجد منه إلا جرة صغيرة كانت تكفيهم ليوم واحد، ولكن حصلت المعجزة عندما تبين أن الجرة كانت كافية لإضاءة القنديل لمدة ثمانية أيام؛ وعلى هذا يحتفل بعيد التدشين (الحانوكا) منذ ذلك اليوم، وحتى هذه الأيام، لمدة ثمانية أيام.
6 – تكلم الرئيس الأمريكي عن مرونة الشعب اليهودي، وأنه يشع ضياءً على العالم، وأن أعداء اليهود من اليونانيين دنسوا المعبد اليهودي، وينسـى أو يتناسى أن اليهود، ومستوطنيهم، يدنسون كل اليوم الأماكن المقدسة الإسلامية، بما فيها بيت المقدس، وأنهم يقتلون الفلسطينيين بدم بارد، ويدمرون بيوتهم، ويحرقون مزارعهم، دون خوف أو وجل، ومن دون استنكار المنظمات الدولية بل وحتى الشخصيات الدينية اليهودية، التي تدعي قيم التسامح والعيش المشترك. ولو اطلع الباحثون والمراقبون على تعاليم الكتاب اليهودي (التلمود)، لوجدوا فيه المئات بل الآلاف من كلمات القتل والذبح والإرهاب، ومن الألفاظ البذيئة والمشينة بحق المسيحيين قبل المسلمين، والتي يعجز القلم من تردادها، وبالذات تجاه السيد المسيح (عليه السلام)، وأمه الصديقة البتول (مريم).
7- أن الحاخام الأمريكي اليهودي (سيلوفيتشك) يشير في الغناء اليهودي المنسوب للحانوكا (مائوز تسور)، إلى إعادة بناء بيت الرب، يقصد به تخريب المسجد الأقصـى، وبناء ما يسمى بـ(هيكل سليمان) على أنقاضه. ويبدو أن قرار الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل هو توطئة ومقدمة لذلك.
8- أن الحاخام المذكور تطرق في نهاية أغنية الحانوكا إلى القول: “وعندما تكون قد أعددت الذبح للعدو المرتد، ثم سأكمل غناء الترنيمة: تفاني المذبح، ثم سأكمل غناء الترنيمة تفاني المذبح…”، لو أن أحداً من المسلمين ذكر هذا (الذبح للعدو المرتد) في كلمة أو خطبة له، لأقاموا الدنيا عليه، ولاتهموه بالإرهاب وعدم التسامح..!
مما تقدم، يبدو أن قرار الرئيس الأمريكي المسيحي البروتستانتي (دونالد ترامب)، في 6 كانون الأول/ نوفمبر2017م، الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية، جاء بعد مائة عام تقريباً من القرار الصادر عن وزير الخارجية البريطاني المسيحي البروتستانتي (آرثر بلفور) في 2 تشرين الثاني/نوفمبر عام1917م، الخاص بمنح أرض فلسطين لليهود، وكانت إسرائيل قد احتلت المسجد الأقصى في 7 حزيران/ يونيو عام1967م.
ثالثاً: الإرهاب ديدن الصهيونية العنصرية
لما كانت الصهيونية حركة عنصـرية، واتخذت من الجانب العسكري الإرهابي هدفاً لها لتنفيذ مآربها؛ لذا فإن المجتمع (الإسرائيلي)، الذي نجحت في إقامته في فلسطين عام 1948م، مجتمع عسكري إرهابي بامتياز، وإن السنوات الخمسين بين إنشاء (الحركة) عام 1897، وقيام (الدولة) 1948م، كانت هي أيضاً فترة عمل عسكري يسير إلى جانب العمل السياسي والدولي، وإنشاء المؤسسات، وتأهيل الذات لمرحلة الدولة.
فمثلما أفرز الاستيطان اليهودي مستعمرات تتوزع بين نوعي الكيبوتز والموشاف، أفرز نوعاً ثالثاً عسكري الطابع، هو الناحال، وكانت الناحال مستوطنات خاصة بالجنود تتوزع مواقعها على الأماكن الاستراتيجية؛ أي أنها كانت قلاعاً حربية تحت عنوان مدني، وكانت بالتالي رديفاً وقواعد للنشاط الإرهابي والتخريبي ضد العرب المسلمين.
ومثلما أفرز الاستعداد الصهيوني مؤسسات للشباب تعمل للهدف الاستيطاني ودمج المهجرين إلى فلسطين، أفرز أيضاً مؤسسة (الجدناع)، وكانت أشبه بالجسـر الذي يعبر به الصهيوني من موقعه المدني إلى موقعه العسكري داخل عملية التهيؤ للقتال من أجل إنشاء (الدولة).
غير أن البنية الحربية للحركة الصهيونية، في عهد الانتداب، تمثلت في المنظمات الإرهابية الصـرفة. وإذا كانت (الهاجاناه)، التي حملت صفة رسمية إلى حد ما، وكانت علنية، وتشكل جهازاً شرعياً في آلية التعاون البريطاني – الصهيوني لتحقيق (وعد بلفور)؛ وكذلك (البالماخ)، ذراعها العسكرية الضاربة، تعمل تحت جناح الوكالة اليهودية مباشرة، وتأتمر بأوامر المنظمة الصهيونية العالمية، التي كان (الماباي) (حزب العمل) فيما بعد، يشـرف عليها؛ أي أنها كانت تجلس في أحضان السلطة. فإن منظمات إرهابية أخرى كانت تعمل تحت جنح الظلام، وتفتك بالمواطنين العرب، وقد أتاح لهذه المنظمات الإرهابية غير الرسمية أن تتحرك بحرية وتبطش بشدة، بمخطط جهنمي تفتقت عنه مخيلة القيادة الصهيونية (في المنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية في فلسطين)، وهو أن يرخي العنان للمنظمات الإرهابية لتجول وتصول ضد العرب في السنوات العشـر التي سبقت إنشاء (الدولة)، بينما تتنصل القيادة السياسية الرسمية المعترف بها (المنظمة والوكالة) من أعمالها، ولا تكون مسؤولة إلا عن تصـرفات (الهاجاناه)، وهكذا وزع النشاط بين المنظمات الإرهابية: الرسمي منها (الهاجاناه) يضـرب بسيف الشـرعية، وغير الرسمي وأبرزها (الأرغون) و(شتيرن)، تتصرف على هواها، وتبطش، وتقتل دون وازع أو ضمير!
وبهذا الصدد لا يمكن نسيان الإرث الإرهابي للعقيدة الصهيونية، الذي تمثل في هذه المنظمات (غير الشـرعية)، بقيادة منظّرها (فلاديمير جابوتنسكي) (1880 – 1940م)؛ أحد أبرز القادة الصهيونيين الإرهابيين بعد (هرتزل)، وكان منافساً رئيساً لـ(حاييم وايزمان) (1874 – 1952م)، الذي تولى قيادة المنظمة ما بين عامي 1905 و1948م. وكان الفارق الأساسي بين تلميذي ثيودور هرتزل (1860 – 1904م)؛ معلمهما الأكبر، الوفيين له، كل منهما على طريقته، أن (وايزمان)؛ ومدرسته ومريديه، أخفى نواياه العدائية والتوسعية والإرهابية تحت جبة النشاط السياسي، والسعي الدبلوماسي، واستطاع بذلك أن يؤمّن الحصول على براءة (وعد بلفور) في قسم من فلسطين، وأن يقيم صك الانتداب البريطاني على فلسطين، على أساس الالتزام بتنفيذ الوعد أمام أكبر هيئة دولية (عصبة الأمم)، وأن يتبجّح في استيراد جماعات كثيرة من المهاجرين اليهود الجدد، ويقيم لهم المستوطنات والكيبوتزات، ويحصل لهم على الأراضي والأموال والأعمال، وأن يؤسس للمجتمع اليهودي في فلسطين أيام الانتداب (دويلة إرهابية) داخل دولة.
أما (جابوتنسكي)، فكان لا يخفي نواياه العنصـرية والإرهابية، ويكشف عن طموحاته التي لا حدود لها، ولا يقتنع بالمرحلية والتدرج في تحقيق الأهداف؛ أي أن الاثنين التقيا في الهدف، واختلفا في نقاط التشديد، وسلّم أولويات هذا الهدف؛ ألبس (وايزمان) القوة جلباب السياسة، أما منافسه، فألبس السياسة جلباب القوة؛ حملت يد (وايزمان) أدوات الاتصال والتفاوض، وأخفى أدوات الحرب في جيبه، وحمل (جابوتنسكي) السلاح في يده، حتى وهو يجري اتصالات سياسية ويتفاوض. وركز (وايزمان) على فلسطين التاريخية، في حدود الانتداب، قاعدة للانطلاق، بينما انفتحت القاعدة شرقاً عند (جابوتنسكي)، فشملت ضفتي نهر الأردن، وما وراءه، حسب وعد التوراة!
وطبخ الرجلان طبقاً واحداً، إنما بمذاقين مختلفين، بسيطرة الحركة العمالية على المنظمة العالمية أيام الانتداب. وبدأ الاختلاف بين الطريقين نحو الهدف المشترك يتسع، وصار هناك غالب ومغلوب، فانشق (جابوتنسكي) عن المنظمة، وأسس (المنظمة الصهيونية الجديدة)، وسمّاها أتباعه الكُثر (الحركة التصحيحية)، وسماها خصومه (الحركة التحريفية).
وما يهمنا هنا من هذا الصـراع السلمي في غالبه بين الاتجاهين، على امتداد عشـرين سنة، أن حركة (جابوتنسكي) كانت الخلفية التي انطلق منها الإرهاب (غير الرسمي) حتى عام 1948م، وأظهر (جابوتنسكي) من خلالها إعجابه الشديد ببطولات الأجداد في العهد القديم من التوراة؛ في ذبح العمالقة أهل فلسطين القدماء، وسكانها الأصليين، بعد الغدر بالمصـريين، ومقاتلتهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم ومواشيهم ونسائهم بالقوة، والتعامل مع جيران فلسطين بالغطرسة، ودعا إلى إحياء تلك (البطولات)، وممارسة تلك الأساليب الهمجية والوحشية من أجل الظفر بفلسطين من جديد! ودعا أيضاً إلى دراسة فنون الحرب والقتال عند اليهود القدامى بتعمق.
وكان (جابوتنسكي) معجباً – في الوقت نفسه – بزعامتي هتلر، وموسوليني، ولحق به مريدوه ينشئون له الآلية للتعبير عن هذه الشـراسة والهمجية، مقابل المحاولات السياسية التفاوضية الظاهرة النفاق، التي كان حزب العمل (الماباي) يتبعها.
وتجدر الإشارة إلى أنه تحت سقف (الجابوتنسكية) قامت ثلاث أو أربع منظمات إرهابية، نسقت مع (الهاجاناه) سراً، وانفردت جهراً بتحمل مسؤولية اعتماد الإرهاب سبيلاً إلى السلطة. وانبثق عن (المنظمة الصهيونية الجديدة)، التي حلت نفسها في الأربعينيات، وعاد رجالها إلى المنظمة الأم، أي الصهيونية العالمية، حزب سياسي رئيس هو حزب (الحيروت)، بزعامة الإرهابي (مناحيم بيغن) (1913 – 1992م)، انبثق عنه، فيما بعد، تكتل (الليكود). وهكذا انتقلت القيادة الجابوتنسكية من مؤسسها إلى (بيغن)، إلى (شامير)، إلى (نتنياهو)؛ خط إرهابي يتعاطى السياسة، في مقابل الخط السياسي الذي يتعاطى الإرهاب؛ من (بن غوريون) إلى (إشكول)، إلى (مائير)، إلى (رابين)، إلى (بيريز)، إلى (باراك)، خطان متوازيان، وصفحتان لورقة واحدة.
تبدلت الحال، شكلياً، بعد قيام (الدولة)، عام 1948م، وانضمام المنظمات الإرهابية: (الأرغن) و(شتيرن)، إلى الجيش الصهيوني، الذي كانت (الهاجاناه) قوامه الأساسي؛ فمثلما ورثت (الدولة) مسؤولية اليهود في العالم، وادعت تمثيلهم، والنطق باسمهم، وإدراك مصالحهم، والاستيلاء على حقوقهم، ورثت أيضاً الجانب الإرهابي/ العسكري/ التخريبي/ العنصـري، من الحركة الصهيونية، وأصبحت هي المسؤولة عن قرار تنفيذه، وإداء عملياته، وأصبح الإرهاب الصهيوني، كله، رسمياً، يدار من فوق، من أجهزة الدولة؛ علناً أو سراً. وهكذا لم يعد هناك، في العقود السبعة الأخيرة، إرهاب رسمي وغير رسمي، وشرعي وغير شرعي، وإرهاب فئوي متعدد المسؤوليات، أصبح لدينا إرهاب واحد، برأس وعقل وقرار واحد؛ إرهاب (دولة)، هي دولة إرهاب اندمج مع (الدولة)، واندمج مع الحركة الصهيونية العنصرية.
من هنا كان تاريخ (إسرائيل) تاريخ حرب متواصلة. وليس بين دول العالم المعاصر، أو بين المائة والتسعين دولة التي تنتمي إلى الأسرة الدولية، دولة غير (إسرائيل) تاريخها هو تاريخ إرهاب وحروب متواصلة؛ هناك أنظمة عسكرية، وهناك دول تحارب، ولكن ليس هناك غير الدولة الصهيونية، من كانت العسكرية صفتها اللازمة والباقية في حالات الحرب والسلم. لقد قال بن غوريون، عند إعلان دولة (إسرائيل): “بالدم والنار”.
رابعاً: (نتنياهو) وتطبيق تعاليم التوراة المحرَّفة والتلمود في قتل أبرياء (غزة)
إن جرائم الحرب، وجرائم القتل العام، والإبادة البشـرية، هذه المصطلحات ليست خاصة بعرق أو جنس معين؛ سواء من القائمين بها (الظالمين)، أم من المغدورين (المظلومين)، غير أن اليهود استطاعوا، بجهودهم وضغوطهم الكبيرة على المجتمع الدولي، لأسباب عديدة، طيلة الثمانين عاماً التي مضت؛ استطاعوا بذكاء إلحاق كلمة النازية ومعاداة السامية بكل من تسوّل له نفسه الوقوف بوجههم؛ بحق أو بغير حق، فكلّ مَنْ ذكرَ جرائمَهم التاريخية بحقّ الأنبياء – الذين أُرسلوا إليهم لإنقاذهم من طيشهم ونزواتهم المريضة، أو من تعاليم التلمود والتوراة المحرفة، التي تنادي بقتل كل أفراد الأمم والشعوب التي تقف في وجه طموحاتهم التي ليس لها حدود، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ -؛ يكون مُداناً بمعاداة السامية.
فعندما حدثت عملية (طوفان الأقصـى)، في 7 أكتوبر 2023م، عدها (الإسرائيليون) (الهولوكوست الثاني!) الذي لحق باليهود، بعد (الهولوكوست الأول) على يد ألمانيا الهتلرية، في سنوات الحرب العالمية الثانية، وحاولوا جاهدين إلصاق كلمة النازية بالمجاهدين الفلسطينيين! لا سيما بعد تخطيهم الجدار الفاصل بين قطاع غزة والمستوطنات (الإسرائيلية) في غلاف غزة، وغيرها.
وبشأن حفل (نوفا) الموسيقي، الذي كان «الإسرائيليون» يقيمونه، وحضـره حوالي 4000 شخص من جنسيات غربية؛ أمريكية وبريطانية وألمانية وفرنسية وكندية وغيرها، وأثبتت التحقيقات «الإسرائيلية»، على لسان صحيفة (هاآرتس)، أن مقاتلي (حماس) لم يكونوا على دراية بالحفل الآنف الذكر، المقام بالقرب من ديارهم في غزة، وأن عدداً كبيراً من قتلى الحفل من (الإسرائيليين) والأوروبيين قد قامت به حوامة «إسرائيلية»، وكل ما نشـرته «إسرائيل» من فيديوهات ملفقة حول ما ألحقه المجاهدون الفلسطينيون بحق المستوطنين «الإسرائيليين»، ثبت زيفها لدى الإعلام الغربي، التي كانت قد انطلت على بعض صانعي القرار الغربي من الأمريكيين والأوروبيين، ثم ثبت زيفها لديهم، ولكنه العناد والخوف من اللوبي اليهودي في بلادهم جعلهم لا يعترفون بذلك، رغم أنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن الإعلام «الإسرائيلي»، ومن ورائه الإعلام الغربي، يعرف الحقيقة المرة، حيث قدّم العديد من هؤلاء الصحفيين استقالاتهم، بسبب نشـرهم مقالات ثبت فيها بطلان ادعاءات ومزاعم الكيان «الإسرائيلي»؛ لذلك أُجبروا على الاستقالة، والمثال على ذلك اثنان من كبار محرري صحيفة (نيويورك تايمز).
فمن الناحية التاريخية؛ بدءاً من عقد الثلاثينيات من القرن العشـرين، ارتكب اليهود العديد من المجازر بحق الفلسطينيين، قبل تأسيس الكيان العبري، بدعم مباشر من سلطات الاحتلال البريطاني، التي كانت تحتل فلسطين (1918 – 1947م)، مثل مجازر: مذبحة حيفا عام 1937م، مجزرة القدس 1937م، مجزرة حيفا 1938م، مجزرة القدس 1938م، مذبحة بلدة الشيخ 1947م.
وفيما بعد تأسيس كيانهم، فإن المجازر بدأت تتلو الواحدة تلو الأخرى، لإرهاب الشعب الفلسطيني، وجعله يغادر بلاده إلى البلدان العربية المجاورة، كما حدث في مجازر: مذبحة دير ياسين عام 1948م، مذبحة قرية أبو شوشة 1948م، مذبحة الطنطورة 1948م، مذبحة قبية 1953م، مجزرة جنين، مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان 1982م، مذبحة الأقصـى الأولى 1990م، مذبحة الخليل 1994م، وغيرها التي لا تعد ولا تحصـى، وآخرها المجزرة البشعة في غزة حالياً (أكتوبر ونوفمبر 2023م)، أمام أنظار العالم الغربي المتحضر! وكأنما يحدقون في فيلم سينمائي!
أي بعبارة أخرى، إن المجازر وجرائم الحرب استمرت أكثر من 90 عاماً بحق الفلسطينيين؛ من أيام الوكالة اليهودية، وفيما بعد على يد الكيان الصهيوني، وليس 75 عاماً كما يردد البعض من محرري وصحفيي بعض الجرائد والمجلات العربية.
لذا، نجد أن ما يحصل في (إسرائيل) عموماً هو التوجه نحو تنفيذ توراتي محرف وتلمودي للقتل الجماعي للعرب المسلمين في غزة والضفة الغربية، فيوثق الباحث والاكاديمي الإسرائيلي (إسرائيل شاحاك)، في كتابه (الديانة اليهودية وتاريخ اليهود)، هذا المنطق، حين يكتب: «كل هذه الشعوب يجب أن تباد إبادة كاملة؛ الكنعانيين والميدانيين (سكان مَدين) والعمالقة». ويكرر التلمود والأدب التلمودي هذا الحض التوراتي على الإبادة الجماعية بحماسة أشد من حماسة التوراة! ولقد استشهد أحد الحاخامات (الإسرائيليين) المهمين؛ استشهاداً وقوراً، بآيات توراتية تحض على الإبادة الجماعية للميدانيين، من أجل أن يبرر (مذبحة قبية). (المرجع السابق، ص 152 باللغة العربية، ص 91 باللغة الإنجليزية).
وتجدر الإشارة إلى أن الميدانيين والعمالقة (العماليق) هم من شعوب فلسطين القديمة المذكورة في (التوراة)، التي أمرت الأحكام الدينية اليهودية بإبادتهم عن بكرة أبيهم. مع العلم أن العديد من حاخامات اليوم يعتبرون الفلسطينيين مثل العمالقة والميدانيين. وعن ذلك كتب الصحفي (الإسرائيلي – الفرنسـي) (آمنون كابيليوك): “…قبل اتفاقيات (أوسلو) بوقت طويل، كان هناك فاشيون مكافحون في جامعة (بار إيلان) (جامعة العلوم الدينية اليهودية)، ففي فبراير 1980م كتب الحاخام (إسرائيل فيس)، في صحيفة (بات كول) الطلابية، مقالاً بعنوان (الإبادة الجماعية في التوراة)، قال فيه: إن العرب هم من سلالة العمالقة الذين قالت التوراة: إنه على اليهود إبادتهم كلياً..”.
وفي هذا الصدد، هناك رسالة استفتاء من جندي يهودي في جيش الكيان الصهيوني، وجوابها من الحاخام (شمعون وايزر): يقول السائل الجندي (موشيه): «..في إحدى المناقشات التي جرت في مجموعتنا، دار نقاش حول طهارة السلاح، وبحثنا فيما إذا كان مسموحاً لنا بقتل رجال غير مسلحين -أو نساء وأطفال-، أو ربما إذا كان علينا الانتقام من العرب؟ ثم أجاب كل واحد منا بحسب فهمه للأمر، ولكنني لم أستطع التوصل إلى قرار واضح، وما إذا كان ينبغي أن يعامل العرب مثل العماليق؛ أي أنه مسموح للمرء بقتلهم حتى تمحى ذكراهم تحت السماوات، أو ربما كان على المرء أن يفعل كما يحصل في الحرب العادلة، التي يقتل المرء فيها الجنود فحسب؟». فكان جواب الحاخام (شمعون)، باختصار: «بعون السماء، عزيزي موشيه، تحيات، أفضل الأغيار اقتله، أفضل الأفاعي اسحق نخاعها»، بقية الفتوى استدلالات من التلمود وأقوال الحكماء القدامى من الهالاخاه (النظام القانوني لليهودية).
رد الجندي (موشيه): “إلى المحترم حاخامي العزيز، أما بالنسبة للرسالة فقد فهمتها كما يلي: في زمن الحرب ليس مسموحاً لي فحسب، ولكنني مأمور بأن أقتل كل عربي أصادفه، رجلاً كان أم امرأة، إذا كان هناك سبب للخوف من كونهم يساعدون في الحرب ضدنا، إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة”.
ولكننا لن نتطرق لدى بحثنا لهذا الحكم الحاخامي من الناحية الحقوقية، ولا من الجانب الأخلاقي، وإنما من الطريقة اللغوية التي استخدمها النص، حيث يقول: «اسحق نخاعها»، فلماذا هذه الدموية الحاقدة؟ وهل تجد نصاً مشابهاً في أية ديانة من ديانات العالـم؛ من مصـر إلى بلاد الشام إلى البابليين، إلى الهند والصين، إلى حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية، بل إلى جميع أنحاء البشـرية؟ وما طبيعة المؤسسات التي تستخدم هذه التعابير الاستفزازية الوحشية في تعاملها مع بني الإنسان؟ ترى هل نلاحظ الربط المتعمد بين الأفاعي السامة؛ المغضوب عليها من الله – حسب (سفر التكوين) في التوراة/ الإصحاح الرابع – والأغيار؟
ويقول أيضاً: “ويكرر التلمود، والأدب التلمودي، هذا الحض التوراتي على الإبادة الجماعية بحماسة حتى أشد من حماسة التوراة.. ومن المألوف في الواقع أن تلقى في جنود الاحتياط الذين يجري استدعاؤهم لدورة خدمة في قطاع غزة، محاضرات تثقيفية، يقال لهم فيها: إن فلسطينيي غزة يشبهون العماليق. ولقد استند أحد الحاخامات (الإسرائيليين المهمين) إلى آيات توراتية تحض على الإبادة الجماعية. وقد أحرزت هذه الفتوى تداولاً واسع النطاق في وسط الجيش (الإسرائيلي). وهناك أمثلة مشابهة كثيرة، على التصـريحات الحاخامية المتعطشة للدماء، المناهضة للفلسطينيين، التي تستند إلى هذه القوانين”. (المرجع السابق، ص 152) يعني قوانين (الهالاخاه).
ويتابع هذا الحاخام، فيقول: «وسيأتي اليوم الذي يُطلب منا جميعاً الانطلاق في هذه الحرب المقدسة لإبادة العمالقة العرب، وفي هذه الحرب لن يكون هناك رأفة، فواجب القتل والإبادة يشمل حتى الرضع، فالعمالقة يحاربون شعب الله» (كابيليوك، كتاب عن مذبحة صبرا وشاتيلا، ص157). ويبدو أن الحاخام في دعوته القاتلة يستند إلى النص التوراتي الذي يقول: «.. فمتى أراحك الرب إلهُك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الربُ إلهُك نصيباً لكي تمتلكها، تمحو ذكر عماليق من تحت السماء، لا تنس» ( تثنية 25: 19).
وعلى هذا الأساس، تعتبر المذابح الجماعية؛ كما في دير ياسين وكفر قاسم وقانا وقبية، وحالياً (غزة) بصورة أبشع، عملاً مشـروعاً، بل إنه تنفيذ لمشيئة رب اليهود. ومن يتابع الأحكام التي أوقعت بمرتكبي تلك المجازر، يجد أنها برّأت بعضهم، وحكمت على بعضهم الآخر بأحكام تستدعي الابتسام أكثر من كونها عقاباً، لقد وصل إلى علمنا بأن من يُحكم عليهم بالسجن، لقتلهم فلسطينيين، يعاملون معاملة متميزة، تعوضهم عن كل أذى لحقهم، بل تجعل أيام سجنهم رحلة إلى الجنة، لكثرة الدلال والترفيه.
وهذا من جملة شواهد كثيرة لا تحصـى، تؤكد أن مجتمع الكيان الصهيوني يظهر بصورتين متناقضتين: صورة للعالم الخارجي، حيث يقيم مؤسسات ديمقراطية، ويتبنى ما يسمى بالبنية العصـرية للدولة، ويتبجح بالإيمان بالتعددية؛ تلك الفكرة الغربية الكاذبة والمخادعة. والصورة الأخرى داخلية، حيث يؤمن ذلك الكيان، وعلى أعلى المستويات السياسية – حتى رئيس الوزراء نتنياهو السفاح – يؤمن بخرافات ما يسمى الحكماء القدامى، الذين وضعوا أصول (الهالاخاه). وهذا الخداع اليهودي يشبه – إلى حد كبير – خداع العالم الغربي عندما يتبنى العلمانية الليبرالية والديمقراطية والتعددية، وحقوق الإنسان، الذي تحدّده وترعاه مبادئ الأمم المتحدة، ستاراً يخفي وراءه التعصب الديني المتحالف مع الصهيونية ضد الإسلام والمسلمين.
وعلى أي حال، فإن (نتنياهو) يزعم – في تصـريح له في سياق الحرب الحالية على غزة- أنَّ الجيش (الإسرائيلي) هو أكثر جيش أخلاقي في العالم؛ فهو يفعل كل ما في وسعه من أجل تجنّب إيذاء غير المتورّطين في الحرب. واتهم هؤلاء الذين يجرؤُون على اتهام جنودنا بارتكاب جرائم حرب، بأنهم مشبّعون بالنفاق والأكاذيب، ولا يمتلكون ذرّة من الأخلاق! وكان من اللافت أن (برونو ريتايو) – قُدم على أنه باحث ومجند (إسرائيلي) سابق– قد طالب بوقف إطلاق صواريخ تحذيرية لسكان غزة؛ لأنه لا يوجد سكان في غزة، وإنما نحو 2.5 مليون إرهابي بزعمه. وهو ما تكرّر على لسان أكثر من (إسرائيلي) بالصوت والصورة!
تقدّم (إسرائيل)، إذن – سواء من خلال خطابَيها الديني والسياسي، أم من خلال ممارساتها الفعلية في الحرب على غزة – نموذجًا فجًّا للتوحّش الذي يدّعي في السياق اليهودي استعادة قيم التوراة، ويزعم في السياق الدولي أنه لا يخالف القانون الدولي والإنساني! ورغم أن الأحكام والتقويمات الأخلاقية بحاجة دومًا إلى تعليل وتسويغ، وأن سلوك الدول والأفراد هو محلّ للمساءلة النقدية والتقويمية؛ فإنَّ السمة الأساسيّة للخطاب (الإسرائيلي) هي أنه هو نفسه المعيار، ولا يخضع لأي معيار، بل يُقدم نفسَه على أنَّ أخلاقيته من الوضوح بحيث لا تقبل النقاش.