مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (القسم الأول)
أ. د. عماد الدين خليل*
لقد سمَّيت هذا البحث مدخلاً إلى بناء الكون في المنظور القرآني، وهو لا يعدو أن يكون تمهيداً لبحوث شاملة ينفذها مجموعة من الباحثين المختصين بالعلوم القرآنية وبعلم الفيزياء الكونية (الكوزمولوجي)، وأحسب أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي يقوم بمهمة كهذه من أجل ملء الفراغ في هذا الموضوع الذي تفرّقت به السبل.. هذا إلى تناوله من قبل العديد من الباحثين في سياق الفكر الإسلامي المعاصر.
إن أية مقارنة جادة بين معطيات القرآن الكريم بخصوص بناء الكون، وبين كشوفات العلوم الفيزيائية والرياضية المعاصرة، لا بدّ أن تضع في حسبانها مبدأ إحالة هذه الكشوف على المعطيات القرآنية، وليس العكس بحالٍ من الأحوال، ذلك أن علم الله الخالق والمالك – جلّ في علاه -، هو غير معطيات الباحثين من علماء الفيزياء والرياضيات.. في الحالة الأولى نجدنا قبالة حقائق مطلقة يتحتم التسليم بها، وفي الثانية قبالة علوم تزداد بمرور الوقت قدرةً على تجاوز ظنّيتها، والالتحام الجاد بالحقائق الكونية.. وفي هذه الحالة، كما أكد هذا البحث مراراً وتكراراً، سيكون اللقاء الحميم بين الدين والعلم.. بين ما أكده كتاب الله، وما كشفت عنه العلوم المعاصرة، بعد رحلة متطاولة في فيزياء الكون.
A Summary of An Essay To Building The Universe In The Quranic Evolution
I have named This Research an opening to Universe Building in The Quranic Evolution and it is no more Than a Preliminary Study for more Comprehensive Researches to be undertaken by a group of Researchers who are specialists in Quranic Sciences and in Cosmic Physics (Cosmology) and I believe That the International Institute for Islamic Culture is the one most suitable for This Subject which poses different ideas what is needed is for modern Islamic Thinkers.
Any serious comparison between The Holy Quran and modern Physical and Mathematical Thoughts has to be based or Quranic Thoughts and at Vise Verse as it is Gods Teachings and not man’s researches as in the first place it is the absolute truth and has to be accepted as in the second, we are faced with ideas that emphasis that an intimate meeting between Religion and modern science would give insight to cosmic physics.
تقديم
هذا ما يريد كتاب الله أن يحدثنا به عن بناء الكون، بعلمه المطلق الذي لا تغيب عنه -وحاشاه- شاردة ولا واردة… قد تلتقي معطياته مع بعض كشوف العلم الغربي، ونتائج الفيزيائيين والرياضيين والكوزمولوجيين، وقد تفترق عنها بزاوية مائة وثمانين درجة.. ذلك أن الفارق بين علم الله الأزلي – الذي لا تحدّه حدود – وعلم عباده، فارق كبير كبير، يصعب حسابه على الحاسبين.
ولقد قيل في هذا المجال الكثير، وكتب الكثير، منذ عهد افلاطون وأرسطو وسقراط، وحتى عهد فلاسفة العلم المعاصرين، وعلمائه الكبار؛ من الفيزيائيين والرياضيين والكوزمولوجيين: اينشتاين، وبور، وهايزنبرغ، وأغروس، وسوليفان، وكاريل، وستانسيو، وهويل، مروراً بكبلر، وغاليلو، ونيوتن… إلخ، فوضعت النقاط على الحروف في جانب من الحقائق، وطاشت سهام في جانب آخر… ولا يزال كبار العلماء يشتغلون ويتحدثون بجملة من الكشوف المتعاقبة… لكنهم، وبعبارة أكثر دقة، أن الحداثيين من فلاسفة العلم أدركوا أن علمهم هذا علم ظني، لا يمكن أن يحقق المطابقة المطلقة مع الحقائق الكونية (Not Exact Science)، ولا يمكن أن يقدم وصفاً دقيقاً لماهيات الظواهر الكبرى؛ كالطاقة، والضوء، والحركة… إلخ، إنما يقفون عند حافاتها التي تحدثهم عن طريقة عملها، أما ما وراء ذلك فهو من الغيب المجهول الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى!
منذ فجر التاريخ تحدث الفلاسفة والعلماء عن بناء الكون، تراهم هل وصلوا إلى جواب قاطع حول هذه القضية، أم أنها مجرد محاولات للاقتراب من حقائق الأشياء، وليس مطابقتها بحالٍ من الأحوال..
في كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نتلقى الجواب.. العلم اليقيني القاطع، الذي لا مجال فيه لغبش أو احتمال.. إنه علم الله الأزلي الذي خلق الكون، وأعطى العالم مواصفاته الأساسية، فلنتابع في هذا البحث، الذي اسميته مدخلاً، جانباً مما يقوله كتاب الله، لعلّه يخفف من حدة الوهج الذي أعمى عيون الكثيرين ممن راحوا يلهثون بما يقوله الغربيون عن قصة الخليقة، وبناء الكون، فيما لا يعدو أن يكون –مرةً أخرى- نوعاً من مقاربة الحقائق، وليس مطابقتها بحالٍ من الأحوال.. فها هنا في كتاب الله نلتقي المطابقة التي لا مجال فيها للظن والتخمين!
1. الله سبحانه وتعالى هو الخالق والمالك
ابتداءً، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو مالكها القيوم عليها، المتصرف بمقدراتها، وبالتالي فهو أدرى بخلقه وملكه: [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] (الملك:14)، ولطالما ترددت في كتاب الله هذه (الثيمة) التي تؤكد حقيقة الخلق وموجده – جلّ في علاه-: [إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ… ](التوبة:116). [أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…](يونس:55). […لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ…](يونس:68). [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ…] (إبراهيم:19). [اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ…](إبراهيم:32). [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ…] (النحل:3). [وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…](النحل:52). [لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى](طه:6). [خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ](العنكبوت:44). [وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ](لقمان:25). [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ](سبأ:1). [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…](فاطر:1). [فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ](يس:83). [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…](الزمر:63-62). [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…](الشورى:12). [وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا…](الزخرف:85). [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ…](النجم:31). [تَبَارَكَالَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ](الملك:1). [رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ…](النبأ:37). [وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ…](الأنعام:3). [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ…](الزمر:5).
ويلفت نظرنا في هذه الآيات تكرار كلمة أن خلق السماوات والأرض إنما جاء مرافقاً لنواميس الحق التي قامت عليها بنية السموات والأرض… ولهذا دلالته ولا ريب، فإن الأمر جد، وإن خلق السماوات والأرض يعكس حقيقة هذا الجدّ الذي يضبط ويضع الأمور في أماكنها تماماً، حيث لا شذوذ ولا انحراف بأي معيار من المعايير. وهو الجدّ الذي يكتسح كل تصورات الغربيين الضالة، التي حولت الكون إلى ساحة عبثية تقوم على الفوضى واللاجدوى والاصطراع بين الآلهة المدعاة، منذ عصر الميثولوجيا اليونانية وصخرة سيزيف وأسطورة النار المقدسة لبروميثيوس، إلى عصر المذاهب العبثية، والوجوديات الفاجرة، التي صوّرت الكون حالة من القهر الذي لا يجد الإنسان في ساحته أيما فرصة على الإطلاق لتجاوز هزيمته والخروج منتصراً!
ها هم كتّاب المسرح الطليعيون، روّاد الرؤية العبثية للكون والعالم والوجود، ومن قبلهم الوجوديون؛ في جناحهم الكافر، يؤكدون لا جدوى الوجود البشري، ولا معنى للحياة الإنسانية (فما دمنا سنموت، فليس لأي شيء معنى)، والحياة تمضي على غير هدى، تلفها فوضى تمسك بخناقها فلا تدعها تعثر على الهدف من خلق الكون والعالم، والضياع يلف الدنيا والأشياء والخلائق، فلا يسمح لأحد – وسط دوامة غبشه – بأن يرى ولو بصيص أمل في مغزى وجوده… أليس هذا كله نقيضاً للجد الذي خلقت به السماوات والأرض، كما يؤكد كتاب الله؟!([1])
ثم ها هم علماء الكوزمولوجي المحدثون يؤكدون، يوماً بعد يوم، مبدأ غائية الحياة، فيجعلون لخلق الكون والعالم هدفاً تقف قبله وبعده إرادة الله الواحد الذي لا يعجزه شيء في السماوات والأرض، وأن الحياة لم تخلق عبثاً، وأن المسعى البشري لا يتحرك فوضى وعلى غير هدى، وإنما هنالك غايات يسعى للتحقق بها، فيما ينقض كل مقولات الفلاسفة والعلماء؛ الذين ضلّوا وأضلّوا بمقولاتهم الخاطئة عبر قرون الإلحاد المعتمة.
كما يلفت نظرنا أن الإقرار من قبل الكفرة والمشككين بحقيقة الألوهية لا يكفي، لأنهم يقفون عند حافات الظواهر والأشياء، ولا يعلمون حقيقة خلقها وغايته.. وتلفت نظرنا –كذلك- عبارة (بيده ملكوت كل شيء)، لكي ما نلبث أن نسلّم بالحقيقة الكبرى التي تشهد بأن خلق الكون إنما يجيء بإرادة الله وحده الذي يملك (كل شيء)، والذي إذا أراد شيئاً أن يقول له: (كن فيكون):[إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ](النحل:40).
2. بداية الخلق
تبدأ واقعة الخليقة وتنتهي بآيات ثلاث تختزل الرحلة الطويلة، التي ربما تمتد لمليارات السنين، والقرآن الكريم ينبهنا، بل يأمرنا، أن ننظر كيف بدأ الخلق: [قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ…](العنكبوت:20)، ولهذا دلالته ولا ريب.
في البدء كانت السماوات والأرض نقطة شديدة الكثافة، ويجيء الأمر الإلهي بتفكيكها وتحويلها إلى منظومة هائلة من السدم والمجرات والنجوم والكواكب والأقمار: [أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ](الأنبياء:30). وقد جاءت أكثر بحوث الكوزمولوجيين حداثةً لكي تؤكد بنظرية الـ (Big Bang) (الانفجار الكوني العظيم) هذا الذي ذهب إليه كتاب الله.. ومن ثم نترك دلالة الخطاب القرآني الموجه إلى الذين كفروا، لأنهم هم الذين سيقدّر لهم اكتشاف هذه الحقيقة عن بدايات الخلق الكوني.
“إن معظم علماء الكونيات والفلك يدعمون نظرية وجود خلق في الواقع لدى انفجار الكون المادي إلى حيّز الوجود، منذ حوالي ثمانية عشر بليون سنة مضت، إثر انفجار أعظم، يعرف عادةً بالانفجار الكبير (big bang)، وثمة خيوط لأدلة عديدة تدعم هذه النظرية المذهلة، وسواء قبلنا كافة التفاصيل أم لم نقبل، فالفرضيات الأساسية بوجود نوع من خلق ما، تبدو قاهرةً من وجهة نظر العلم. ويعود الفضل مباشرةً إلى مجموعة كبيرة من البراهين تعود إلى أكثر قوانين الفيزياء شهرةً، ذلك المعروف بـ(القانون الثاني للديناميكا الحرارية). ويوضح هذا القانون، بالمعنى العام، أن الكون يصبح يوماً بعد يوم أكثر اضطراباً، فثمة نوع من الانحدار التدريجي والعنيد ينزع إلى الفوضى. والأمثلة على صحة القانون الثاني واضحة للعيان. ففي كل مكان: بنايات تنهار، بشر يتقدمون في العمر، جبال وسواحل تتآكل، وموارد طبيعية تنضب.. ولقد قام فيزيائيون باختراع كم رياضي، دعوه (أنتروبي Entropy)، لتحديد كمية الاضطراب أو الفوضى. وقد أثبتت تجارب دقيقة عديدة أن الكمية الكلية للاضطراب في نظام ما لا تنخفض أبداً. وإذا كان النظام معزولاً عن محيطه، فأي تغييرات تحدث داخله سوف ترفع الانتروبي – أي الاضطراب – بحدّة بالغة، حتى يمكنه بعدها الوصول إلى أعلى، وحينها لن يحدث المزيد من التغيير، حيث يكون النظام قد وصل إلى حالة توازن الديناميكا الحرارية. وإذا كان لدى الكون مخزون محدود من نظام آخذ في تغيير لا محيد عنه، نحو الفوضى – أي إلى درجة في توازن الدايناميكا الجارية النهائية-، فهذا يعني مباشرةً الخروج باستدلالين عميقين: الأول موت الكون في النهاية، ومن ثم تخبطه في الفوضى الأولى، ويعرف الفيزيائيون ذلك بـ(الموت الحراري) للكون. والثاني: عدم إمكانية استمرار الكون إلى الأبد، وألا يكون قد وصل إلى حالة توازنه النهائي، في زمن لا نهائي مضى. والمحصلة أن الكون لم يكن موجوداً دائماً”([2]).
“إن التنظيم المعقد والمرهف للسعة، بمكوناتها المتداخلة بدقة، دليل دامغ على التصميم، فإذا رأى الإنسان ساعةً للمرة الأولى في حياته، سيخلص إلى أنها آلة، صنعها رجل ذكي لغرض ما. وأن الكون يشبه الساعة؛ تنظيماً وتعقيداً، لكن على نطاق أعظم بكثير، لذا فمن المؤكد وجود مصمم كوني رتب العالم على هذا النسق لغايةٍ ما: إن إبداعات الطبيعة تفوق ابتكارات الفن تعقيداً ودقةً وبراعةً تقنية. جاءت هذه الحجة من التصميم، ومن ارتباطها بمفهوم الغائية. إن فكرة برمجة الكون كي يتطور باتجاه هدف نهائي ليست بالجديدة، فالغائية أحاطت بدرجة واسعة بكل من نظام البساطة والتعقيد معاً. وقد كتب (الأكويني): من الملاحظ أن تنظيم الأفعال يمضي إلى نهاية، حيث تطبع جميع الأقسام قوانين الطبيعة، حتى وإن افتقرت إلى الوعي، الأمر الذي يوضح أنها تتجه إلى هدفٍ ما، وهذا ليس محض مصادفة. ورغم أن الاكويني لم يكن يعلم شيئاً عن بساطة رياضيات قوانين الفيزياء الأساسية، فإنه رصد الحقيقة المذهلة في إذعان الأجسام المادية وانصياعها إلى قوانين منظمة، واستخدمها دليلاً على وجود الإله المنظم([3]).
3. تهافت نظرية أزلية الكون
لقد أسقط العلم النظريات التخمينية التي تقول بأزلية الكون، وأكد حقيقة أن العالم ليس قديماً. فهناك نقطة معينة بدأ فيها الزمن، وبدأت فيها تكات الساعة، وبدأ فيها الكون كله. وقبل أن يتم تحديد عمر هذا الكون، قدمت فيزياء الديناميكا الحرارية (الثيرمو داينامكس)، في قانونها الثاني، الدليل على أن الكون ليس أزلياً. وينصّ هذا القانون على أن الانتروبي الكلية لنظام معزول (حيث لا تدخل الطاقة أو المادة لهذا النظام، ولا تخرج منه) يمكنها أن تزداد مع الوقت، في حين أنها تظل ثابتة في حالة مثالية (حالة توازن)، أو تمر بعملية انعكاسية Irreversible Process. فزيادة الانتروبي تعبر عن المرور بعملية لا انعكاسية Irreversible Process. وهذا القانون كان نتيجة تجريبية (Empirical Finding) في البداية، لكنه أصبح لاحقاً من مسلمات فيزياء الديناميكا الحرارية. ويتضمن هذا القانون، ضمن ما يتضمنه من نتائج، أن الطاقة المستخدمة في الكون تقل باستمرار، فمع كل لحظة يستهلك الكون جزءاً من هذه الطاقة، كما تستهلك السيارة الوقود الذي فيها. فما علاقة هذا بعمر الكون، وبدايته، أو أزليته؟
القانون الأول من الديناميكا الحرارية ينص على أن الطاقة في الكون محددة. والقانون الثاني يقول أن الطاقة تقل باستمرار (كما يقل الوقود في السيارة، ما دامت تعمل). وهذا يجعلنا نصل إلى هذا السؤال: هل كانت السيارة ستعمل حتى الآن، لو أنها كانت تعمل منذ الأزل؟ لقد كان وقودها سينفد منذ زمنٍ طويل، لكنه يقل ولم ينفد بعد، وهذا يعني أن السيارة لم تعمل منذ الأزل، كان هناك وقت ما بدأت فيه هذه السيارة بالعمل، وكذلك الكون، ما دام يستهلك طاقته باستمرار، وما دامت طاقته محددة وليست لا نهائية، فهذا يعني أنه كان ثمة وقت بدأ فيه كل هذا. ولنتذكر أن هذه القوانين مسلمات فيزيائية، وليس نظريات تقدم تفسيرات معينة لظواهر كونية، ولا ملاحظات قابلة للتعديل، فهي مسلمات مبنية على ملاحظات مختبرية. لقد اعتبر الموضوع بديهياً، لكن قد لا يتفق الكل على ذلك، فجاء العلم ليثبت البداهة.
بعد عدة عقود من إعلان القانون الثاني للديناميكا الحرارية، حدثت عدة فتوحات علمية جعلت العلم قادراً على تحديد متى بدأ الكون، وليس فقط قادراً على الإجابة عن سؤال: هل كانت له بداية؟
بدأ الأمر في عام (1915م) عندما قدم (ألبرت اينشتاين) النظرية العامة في النسبية، وهنا صار يمكن الحديث لأول مرة –عبر هذه النظرية- عن الزمن بطريقة مختلفة عن كل ما سبق، حيث يختلط الزمان والمكان في بعدٍ جديد مختلف، أطلق عليه: (الزمكان).
النظرية العامة تضمنت عشر معادلات رياضية، تصف مداخلات الجاذبية والزمكان والكتلة والطاقة. وخلال سنوات عمل كل من (الكساندر فريدمان) و(جورج ليمتر) (وهو أول من اقترح ما أطلق عليه لاحقاً: نظرية الانفجار العظيم) على معادلات اينشتاين، ووصلا إلى نتيجة مؤداها أن لو صدقت نظرية اينشتاين، فإن الكون سيكون في حالة تمدد مستمر. وفي عام (1929م) اكتشف (أدوين هابل)، عبر التلسكوب، صحة هذا التنبؤ، فإن الكون يتمدد فعلاً، المجرات كانت تبتعد عنا (أي عن مجرة درب التبانة) بسرعة تتناسب طردياً مع بعدها عنا. الآن لم يعد الأمر نظرياً، وعبر معادلات رياضية، أصبح بالتلسكوب وبالتجربة والقياس أمراً مؤكداً، ولقد كان التمدد المستمر للكون يعني بالضرورة أنه كان ثمة بداية له، في نقطةٍ ما محددة. وقد جعل هذا من النموذج الكوني الذي قدمه (جورج ليمتر)، والذي سمي أولاً أنموذج الذرة الأولى، ومن ثم نموذج الانفجار العظيم (Big Bang)، هو النموذج الأكثر قبولاً وصموداً في تفسير نشوء الكون، وهو النموذج الذي يقترح أن الكون قد بدأ من نقطة شديدة الكثافة (يقال أنها لا نهائية الكثافة)، ضمت كل كتلة الكون وكل الزمكان، ثم حدث ما يعرف بالانفجار العظيم، وبدأ عداد الزمن بالعمل منذ تلك اللحظة.
كان ذلك منذ 14 مليار سنة تقريباً، ولقد تم تحديد هذا الرقم والتأكد منه عبر قياسات عملية مخبرية مباشرة (صور من أقمار صناعية، من تلسكوبات عملاقة، من قياس درجات حرارة، إشعاع كوني…)، تتناسق هذه المعطيات وتدعم النموذج الكوني الذي تقدمه نظرية الانفجار العظيم. وهي على العموم ليست النظرية الوحيدة، ولا نموذجها هو الوحيد، لتفسير نشوء الكون. هناك نماذج أخرى كثيرة من ضمنها نماذج تقول إن الكون كان دوماً هناك، لكن هذه النماذج لم تصمد مع الوقت، ولم تستطع أن تقدم تفسيراً لكثير من المعطيات المعارضة. فقد تتغير النظريات، أو تتعرض إلى تغيير أو تحديث، أو حتى إلى بعض الدحض في أجزائها، لكن هذا لن يغير من حقيقة أن الكون قد بدأ من نقطة متناهية في الصغر، وأن ثمة بداية لكل هذا.
في عام (2003م) قدم ثلاثة علماء مهمون، هم: (آرفند بورد، الكساندر فليكين، وألان غوث)، دراسة مهمة، عرضت لاحقاً بأسمائهم مجتمعين BVG Theorum. وقد خلصت الدراسة إلى أن أي نموذج كوني أزلي (غير تمددّي، بلا بداية)، يحتاج في تفسيره إلى فيزياء أخرى غير الفيزياء الحالية.
حتى الآن فإن كل ما يقوله العلم يتفق مع أن للكون بداية، ولا يوجد أي دليل يدعم فكرة أزلية الكون، أو أنه كان دوماً هناك. كل الأدلة تقول أن للكون بداية([4]).
4. ضبط الخلق الكوني
وثمة ثوابت فيزيائية أساسية، دقيقة جداً، سهلت نشوء الكون، وسهلت أيضاً نشوء الحياة كما نعرفها.. وهذه الثوابت دقيقة جداً، لو كان هناك فارق طفيف فيها، طفيف لدرجة غير محسوبة بمقاييس تعاملنا مع الأرقام، لما كان من الممكن أن ينشأ هذا الكون، ولا كانت الحياة قد نشأت. وما تقود إليه هذه الأرقام الدقيقة، واستحالة تكون الحياة في الكون كله في حالة تغيّرها، هو أن هذا الكون الذي نعيش فيه مضبوط على تردد معين، ثمة توليف دقيق جداً يجعل هذا الكون قابلاً لتكوّن الحياة، واستمرارها فيه([5]).
والحديث هذا لم يعد عن كوكب الأرض فقط، بل عن الكون بأسره، أي أننا لا نتحدث عن تنظيم ذاتي لجزء بسيط من فوضى عارمة، بل عن ثوابت كونية بدأت مع بداية الكون عبر الانفجار العظيم، ومن خلال أجزاء من أول ثانية من بداية الزمن. هذا الضبط الدقيق للكون، المعروف اليوم على نطاق واسع بالـ (Fine-tuning Universe)، يشمل حقائق رقمية لم تعد موضع نقاش أو شك. ولا يشترط فيمن يؤيد فكرة (الضبط الدقيق للكون) أن يكون مؤمناً بأي خالق، فقد تحدث عن المفهوم وأيّده علماء ملحدون معروفون([6]).
ويمكن أن يعتبر مفهوم (الضبط الدقيق للكون) تحديثاً معاصراً على (برهان النظم)، الذي استعمل في النقاش حول وجود الله منذ أن كان هناك نقاش حول الأمر، ولكنه أصبح مدعوماً بحقائق علمية رقمية منذ بداية القرن العشرين تقريباً، حيث قدم (لورنس هندرسن)، في عام (1913م)، كتاباً عن (لياقة البيئة)، يعتبر فيه أول من تحدّث عن معايير معينة لضبط الكون، شملت الماء والبيئة؛ من حيث كونهما مناسبين جداً لنشوء الحياة.
في عام (1963م)، قدم (روبرت ديك) مقالاً علمياً في مجلة (Nature)، قال فيه إن بعض القوى الفيزيائية (مثل: الجاذبية، والكهرومغناطيسية)، يجب أن تكون “مضبوطة بدقة” لتسمح بالحياة في أي مكان في الكون. وفي عام (1984م) قدم السير (فريد هويل)، في كتابه (الكون الذكي)، مقارنة قال فيها إن احتمالية تكوّن بروتين واحد عشوائياً، يشبه تخيل مجموعة شمسية مليئة بعميان يجلسون جنباً إلى جنب، بينما هم يحاولون حل لغز مكعب روبيك ذي الأبعاد الثلاثية، وتوقع أنهم سيتمكنون من حلها جميعاً في نفس الوقت تحديداً([7]).
يقول (ستيفن هوكنغ)، في (موجز تاريخ الزمن): قوانين العلم، كما نعرفها اليوم، تحتوي على عدد الأرقام الأساسية، مثل حجم شحنة الإلكترون، ونسبة كتلة البروتون والإلكترون. والمدهش في الأمر أن قيم هذه الأرقام تبدو كما لو أنها قد عدلت بدقة (Finely Adjusted) لتجعل تطور الحياة أمراً ممكناً([8]).
حسب (بول دافيز) فإن القوة النووية (التي تربط بين البروتون والنيوترون في الذرة) لو كانت أكبر بمقدار 2% مما هي عليه الآن، فإن الهيدروجين سيتحد بنظائر الهليوم، بدلاً من أن يتحد بالهيليوم والديتريوم (الهيدروجين الثقيل)، وهذا سيغير بشكل كبير من القوى الفيزيائية في النجوم. فالهيدروجين سيكون سهل الالتحام، بحيث أنه سيستهلك تماماً بعد دقائق من الانفجار العظيم([9]).
يبحر كتاب (ستة أرقام فقط: القوى العميقة التي شكلت الكون)، للفيزيائي (والكوني مارتن ريس)، في ستة أرقام فقط بني عليها الكون بأسره، وأي تغيير فيها كان سيجعلنا غير موجودين أصلاً. الرقم الأول ويرمز له بـ (N)، وهو (القوة الكهربائية) التي تربط الذرات ببعضها مقسومةً على قوى التجاذب بين الذرات. ويعتبر هذا الرقم هو السبب في أن الكون شاسع جداً وهو يساوي:
1.000.000.000.000.000.000.000.000.000.000.000.000
فلو نقصت أصفار (N) أصفاراً قليلة، لما أمكن أن يوجد إلا كون ضئيل قصير العمر، وما كان لكائن أن ينمو إلى حجم أكبر من الحشرة، وما كان ليوجد وقت كافٍ للتطور العضوي.
الرقم الثاني: ويرمز له بـ (E)، وهو مقدار (متانة ارتباط الأنوية ببعضها)، قيمته هي 0.007، وتتحكم هذه القيمة في القدرة الخارجة من الشمس، وكيف صنعت كل الذرات في الكون. والأهم من ذلك، والأكثر حساسية، هو أنه يتحكم في كيف تقوم النجوم بتحويل الهيدروجين إلى باقي ذرات الجدول الدوري. إن انتشار العناصر في الطبيعة يعتمد على هذا الرقم بشكل مباشر، لذلك فالكربون والأوكسجين منتشران، بينما الذهب واليورانيوم شحيحان، ذلك بسبب ما يجري في النجوم، فلو كانت قيمته 0.006، أو 0.008، لما كنا قد وجدنا.
الرقم الثالث: هو (W) أو (أوميغا)، وهو يقيس (كمية الماء) في الكون؛ من مجرات وغازات منتشرة ومادة مظلمة. ويشير (W) للأهمية النسبية للجاذبية وطاقة التجدد في الكون. وتقدّر قيمة هذا الرقم بـ (1) تقريباً.. ولو كانت هذه النسبة أعلى، مقارنةً بقيمتها (الحرجة)، لانهار الكون من زمن بعيد. ولو كانت أقل، لما تكونت أية مجرات أو نجوم.
الرقم الرابع: (L) أو (لمدا)، وهو مقدار( الجاذبية الكونية المضادة) التي تتحكم في تمدد كوننا، ذلك على الرغم من أنها لا تملك تأثيراً واضحاً على مقياس أقل من مليار سنة ضوئية. مصير هذه القوة أن تسود أكثر من الجاذبية والقوى الأخرى، بازدياد كوننا إظلاماً وفراغاً. ومن حسن حظنا أن قيمة (L) صغيرة جداً (وتقدر بـ 0.7 تقريباً)، وإلا لأوقف تأثيرها تكوّن المجرات والنجوم، ولتعطل التطور الكوني قبل أن يبدأ أصلاً.
الرقم الخامس: ويرمز له (j)، وهو يمثل نسبة طاقة الكتلة السكونية للمادة إلى قوة الجاذبية، وقيمته نحو 100.000/1، وهو يحدّد النسيج الكوني. فلو كان (j) أصغر من ذلك بقليل، لأصبح الكون خاملاً وخالياً من أي بنى. ولو كان (j) أكبر من ذلك بكثير، لأصبح الكون مكاناً مهلكاً عاصفاً، لا يمكن فيه لأي نجم أو نظام شمسي أن يبقى على قيد الوجود، وستسوده الثقوب السوداء الهائلة.
الرقم السادس: رقم (الأبعاد الفراغية) في عالمنا (D)، وهو يساوي 3. ورغم أنه كان معروفاً منذ قرون، لكن الآن ينظر له بمنظور مختلف. ولم تكن الحياة لتوجد لو كان (D) يساوي 2 أو 4. كانت الكواكب – في حالة حدوث أي تباطؤ في دورانها – ستصطدم فوراً بالنجم الذي تدور حوله، أو في حالة حدوث العكس تبتعد عنه بمدار حلزوني متسارع([10]).
فلننتبه هنا إلى كون هذه الأرقام (الدقيقة) تتحكم باتجاهين، فمن جهة هي التي تجعل هذا الكون العميق بهذا الحجم وهذا التمدد. ومن جهة أخرى، هي التي تجعل الحياة – بأصغر جزئياتها- ممكنة على الأرض. وبعبارة أخرى: هذا الكون الشاسع، الذي قد يبدو لك أكبر من الضروري، هو أمر لازم لوجودك الشخصي.
إن النظرية الفيزيائية الأكثر حداثةً “قادرة على تفسير سلوك بنية المادة جميعها وفقاً لطريقة الاختزال، وتمكننا من صياغة كل أسرار الطبيعة في معادلة واحدة، أي سيدة رئيسة للكون. وسيؤكد هذا الإنجاز الاعتقاد الأثير بأن الكون يعمل وفقاً لمبدأ واحد رياضي بسيط يبهر الأنفاس. وقد عبر (جون ويلر) عن الالتزام بهذا الهدف النهائي بقوله: سيفتح الباب يوماً بالتأكيد ليعرض الآلية المركزية المتألقة لعالم جميل وبسيط”([11]).
“لقد كان الكون مجموعة من المكونات البسيطة للغاية من المواد الخام، التي صمم الإله من خلالها كل الفضاء والزمن والمادة.. ولا ريب: بتقدم دليل النجاحات، بأنها نصر لأفكار الفيزياء الحديثة المستندة إلى منطق الاختزال. وبدأ الفيزيائيون، عبر محاولة خفض المادة إلى كتل بنيتها النهائية – اللبتونات، الكوارتات، الرسل – يلمحون القانون الأساسي المتحكم بكل القوى، الذي يشكل بنية المادة وسلوكها، ليفسروا بذلك العديد من الخصائص الأساسية للكون”([12]).
ولسوف “يتضح وجود مذاق شمولي قوي لأوجه الكم في طبيعة المادة: مستويات متداخلة للوصف مع كل شيء، مكوناً بطريقة ما من كل شيء آخر، ولا يزال يعرض حتى الآن تراتبية هيكلية. ويتابع الفيزيائيون السعي، ضمن هذا الكمال الشامل، طلبنا للمقومات النهائية للمادة والقوة الموحدة النهائية”([13]).
5. السبب الأوّل هو الله
إن هذا الضبط الدقيق للكون، بكل هذه المعطيات التي تدعمه، ينقلك من شعورك العام بوجود تناسق وتنظيم في الكون والطبيعة من حولك، وهو شعور يمكن أن يفسّر بالتعوّد، إلى حقائق رقمية ثابتة تشير إلى وجود ضبط دقيق لهذا التناسق، مما سهل وجودك الشخصي ووجود أي كائن حي على الإطلاق. إذن، فإن برهان هذا النظام هنا صار يعتمد على أرقام ومعادلات، ولم يعد مجرد (وجهة نظر)، لم يعد (مسألة ذوقية) تعتمد على رأي أشخاص يرون العالم من زاوية معينة([14]).
يقول (مايكل تيرنر)، وهو عالم كوزمولوجي أمريكي مرموق، وله إضافات في جعل علم الكونيات متصلاً بعلوم أخرى على نحو وثيق: إن الدقة التي ضبط بها الكون، تشبه أن ترمي بسهم عبر الكون بأسره، لتصيب هدفاً بقطر مليمتر واحد على الجانب الآخر من الكون([15]).
ويقول (روجر نبروز)، وهو عالم رياضيات وفيزياء رياضية بريطاني مرموق، وشارك في وضع نظرية التفرّد مع ستيفن هوكنغ: إن احتمالية نشوء الكون بالصدفة هي 1 إلى 10 مرفوعة إلى 10 مرفوعة إلى 123([16]).
إن احتمالية نشوء الكون بالصدفة ضئيلة رياضياً إلى درجة لا يمكن تخيلها. وبالتالي، فإنه لا يمكن لكونٍ (ضُبط) بهذه الدقة، إلا أن يكون هناك من ضَبطه بدقة.. أمرٌ محسوم ببداهة، فالجدل في معطيات (الضبط الدقيق للكون) أمر لا معنى له، ما دامت ثابتة علمياً([17]). والخلاصة هي أن البرهان العقلي على بديهية وجود الخالق، في الجمع بين مبدأي (السبب الأول) و(التصميم-الضبط الدقيق للكون)، وهو أمرٌ استخدم منذ بدء النقاش في هذا الأمر. والبرهان قائم على ما يلي:-
أولاً- لا بدّ لكل شيء موجود، أن يكون له موجد: الأمر ملاحظ بالتجربة والحس البديهي. كل شيء في الكون من حولنا نتج عن شيء آخر، وهذا من أساسيات قانون حفظ الطاقة.
ثانياً- لا يمكن أن تكون سلسلة لا متناهية من العلل والأسباب. لا بدّ أن تكون هناك نقطة بداية، وحتى لو قيل إن ذلك ممكن من خلال الزمن في الطريقين – إلى الأمام، المستقبل، وإلى الخلف، الماضي – فإن هذا سيستوجب أن يكون هناك من أوجد الزمن. إذن، لا يمكن لسلسلة العلل أن تكون نهائية.
ثالثاً- إذن لا بدّ أن تكون هناك علة أخرى، أو سبب أول: فلسفياً الأمر قديم قدم أرسطو، كحس عام.
رابعاً- وعندما ترتبط السلسلة المتتابعة، بمجموعة من السلاسل المتتابعة الأخرى، التي تتكاثر كلها إلى هدف واحد، فإن هذا سيقود إلى:
خامساً- السبب الأول، هو الخالق المصمم: الله.
ثم إن (صانع الطبيعة)، بشكل عام، الكون بما فيه، لا بدّ أن يكون من طبيعة مغايرة لطبيعة ما صنعه. أي أن صانع الطبيعة هو من طبيعة مخالفة لما نراه حولنا من مظاهر الطبيعة، وهو بالتالي خارج القوانين الطبيعية، وغير خاضع لشروطها ومواصفاتها. وبناءً على ذلك، فالصانع غير خاضع لبرهان السبب الأول، المبني على مشاهدات الطبيعة. فالسبب الأول لا يشترط أن يكون له سبب.. السبب الأول هو الله – جلّ في علاه -، هو الخالق الذي تنتهي عنده السلسلة كلها([18]).
* * *
6. توسّع الكون
بعد (الانفجار العظيم)، وما أعقبه من متغيرات في بناء الكون، تجيئ مرحلة التوسّع: [وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ](الذاريات:47) هذا التوسع الذي جاءت الكشوف الحديثة لاينشتاين وبور وهايزنبرغ وغيرهم لكي تؤكده، فيما أسماه اينشتاين بالمنحنيات الكونية.
وقد أثبت العلماء أن الكون قد انطلق من نقطة واحدة، وهذه النقطة تستمر بالتوسع.. فإما أن الكون يتوسع من داخله حتى يبلغ حجماً معيناً، يبدأ بعدها بالانكماش، وهذا ما يسمى (بالكون المغلق)، وإما أن يستمر بالتوسع بشكل متسارع، وهذا ما يسمى بـ (الكون المحدب)([19]).. وفي كل الأحوال، فإن الكون أخذ طريقه إلى الاتساع منذ بدء الخلق.. وسواء جاء العلم الحديث لكي يؤكد الحقائق القرآنية أو يبحر باتجاه نقائضها، فهو أمرٌ لا يهمنا، ذلك أن المعطيات القرآنية بما أنها صادرة عن الله سبحانه وتعالى، خالق السماوات والأرض، تحمل مصداقيتها المطلقة، وهذا يكفي.. إنما يجيء التوافق بين ما يقوله كتاب الله وما يكتشفه العلم الحديث في الرياضيات والفيزياء والكوزمولوجي، مصداقاً للآيتين الكريمتين: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ](فصلت:53). [بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ…](يونس:39). لعل ذلك يطامن من إصرار بعض الباحثين الإسلاميين على مقولة رفض الإعجاز العلمي للقرآن، والاكتفاء بالإعجاز البياني، رغم أن أولهما هو خير وسيلة يمكن اعتمادها لمناقشة الملاحدة والمشككين، ودعوتهم إلى الاقتناع بمصداقية هذا الدين.
“وتتفق نظرية توسع الكون -تماماً- مع الفكر الحديث المتعلق بطبيعة الفضاء والزمن والحركة. وقد حظي (ألبرت اينشتاين) بمكانة رفيعة في المجتمع العلمي، حين حقق ثورة في مفهومنا لهذه القضايا عبر نظريته في النسبية، وقد استغرق اعوجاج الفضاء والزمن لاينشتاين ستين عاماً ليثير مخيلة العامة، مع أن أفكاره عن انحناء الزمكان قد حظيت بقبول الفيزياء منذ زمن كتفسير للجاذبية”([20]).
7. اللّم الكوني
ثم تجيئ الحلقة الثالثة للخلق الكوني، عبر مديات زمنية لا يعلمها إلا الله، وهي بمثابة عملية اللم للكتلة الكونية، تمهيداً ليوم الحساب: [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ](الأنبياء:104). […وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ…](الزمر:67). هذه النهاية التي تجيء وفق أجلها المرسوم في علم الله: [مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ](الأحقاف:3).
وهكذا يحسم كتاب الله الخلق الكوني بدءاً، وصيرورة، وانتهاء، بالإيجاز المطلوب، حيث تجيء معطيات العلم، في أقصى وتائره، مقاربة بدرجة أو أخرى، لما يقوله القرآن الكريم. أما التخمينات والظنون التي يمارسها هذا العلم، فتلك مسألة أخرى، حيث يتهافت الكثير من مقولات العقل الوضعي؛ بعلمائه وفلاسفته وأدبائه.. ومن بين تلك المقولات مبدأ (المادية الديالكتيكية)، الذي صممه ماركس وانغلز لتفسير الخلق الكوني بصيغة متواليات كمية، تتحول بقدرة قادر مجهول إلى متغيرات نوعية، وتقود الوجود نحو الأحسن والأكثر اكتمالاً. وهي مسألة تبلغ من الفجاجة أن يصفها (سوليفان)، في (حدود العلم)، بنظرية (السخف الطائش)، ويعلّق عليها المفكر الإنكليزي (الكساندر غري)؛ بقوله: إننا إذا جئنا بجذع شجرة في إحدى الغابات، وطرحناه أرضاً، ورحنا ننتظر عشرات السنين، بل مئاتها وألوفها، لكي تتحول ذاتياً إلى منضدة صالحة للكتابة، ذات سطح أملس وقوائم ومجرات.. إلخ، فإن ذلك لن يتحقق ولو امتد بنا الانتظار لملايين السنين..
هنا، في رحاب كلمات الله، نلتقي بما هو أكثر مطابقة لحقائق الأشياء.. للعلم في منظوره المحكم الدقيق. فعبر آيات معدودة فحسب، تحسم المسألة، ذلك أنها سلمت المفتاح الحقيقي لصاحبه – جلّ جلاله -، ذي القدرة المطلقة على الخلق والأمر، فتجاوزت بذلك كل المطبات التي وقع فيها، ليس فلاسفة وبعض علماء العصر الحديث، وإنما جملة من الفلاسفة، أجهدوا عقولهم، منذ عهد أفلاطون وأرسطو وسقراط، إلى عصر ماركس وانغلز وسارتر، مروراً بالفلاسفة المسلمين، المتأثرين بالفكر اليوناني، من أمثال الكندي والفارابي وابن ماجة وابن رشد وغيرهم، في حديثهم عن واجب الوجود، والمتناهي الأول.. و.. و.. فيما أدانهم بجهدهم الضائع هذا، عقل إسلامي متوقد كابن خلدون في مقدمته، ووصل إلى القول بعبث جهودهم الوضعية تلك، بسبب من عدم استهدائها بالمعطيات الدينية المنزلة بالوحي حول خلق الكون والعالم، بدايةً وصيرورةً وانتهاءً! وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه: [وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](الروم:27). [مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً](الكهف:51).
8. زمن بناء الكون
لكن القرآن الكريم، وهو يحدثنا عن الخلق الكوني، لا يقف عند هذا الحدّ، بل يمضي لتقديم شبكة من المعطيات الضرورية، التي تكمل ما بدأه بثلاثيته تلك.
يحددّ كتاب الله المدى الزمني الذي استغرقه بناء الكون.. ليس بالمعايير الزمنية الأرضية المحدودة بالأيام والأشهر والسنين، والتي صممت لتسيير شؤوننا، وضبط مصالحنا، والتي قال عنها: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ…](التوبة:36). ولكن بالمعايير الكونية الممتدة إلى آماد زمنية لا يعلمها إلا الله، والتي كشفت البحوث الحديثة جانباً منها، يمكن أن نجده لدى نسبية اينشتاين ورفاقه من علماء الكوزمولوجي وفيزياء الكون، حيث يصير اليوم الواحد في كتاب الله كألف سنة مما نعد، أو كخمسين ألف سنة: [يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ](السجدة:5). [تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ](المعارج:4)، أو ثمانية عشر مليوناً ومائتين وخمسين ألف يوماً مما نعد!!
وعلى ذلك، فإن اليومين اللذين تم فيهما خلق الكون وتكوينه على الصورة التي استقر عليها، إنما يأخذان مديات زمنية متطاولة، تحسب بالسنين الضوئية التي كشف العلم الحديث –أخيراً- عن جانب منها: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ.فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا…](فصلت:12-11). ونجد أنفسنا في هاتين الآيتين إزاء إشارة مدهشة عن الوضعية التي كانت عليها السماء قبل تصميم الكون، وهي (الدخان)، التي حار علماء الكوزمولوجي في إيجاد تسمية لهذا الفضاء الممتد الواسع الذي سبق خلق الكون ما بين الأثير.. الفراغ.. المادة العمياء.. ثم استقروا أخيراً على تعريفها بالدخان!
وعبر آياتٍ عديدة أخرى، يشير كتاب الله إلى هذا المدى الزمني المتطاول الذي استغرقه خلق الكون، وهي تجيء مقترنةً بالمدى الزمني ذي الأيام الأربعة التي استغرقها خلق العالم، وتهيئته لخلافة الإنسان: [إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ…](يونس:3). [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ…](السجدة:4). [وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً…](هود:7). [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ](ق:38). [هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ](الحديد:4). ها هنا، حيث نجد الحضور الإلهي الدائم في خلقه، بدءاً وصيرورةً، يلغي نظرية (الساعة)، التي قال بها بعض العلماء الغربيين، الذين يتبعون الظن، ولا ترسو معطياتهم على بر الأمان العلمي الدقيق، تلك التي أوضحوا فيها أن الله – سبحانه وتعالى – قد أوجد الكون وفق أدق نظام، ثم تركه (وحاشاه) يسيّر نفسه بما وضعه فيه من قوانين ونظم، وسحب يده من الإشراف عليه وتسييره.. ها هنا، وعبر آياتٍ عديدة أخرى، يؤكد كتاب الله أنه – جلّ في علاه-: [… لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ…](الأعراف:54).
وبهذا، يحسم كل مقولة خاطئة عن طبيعة العلاقة الدائمة بين الخالق والمخلوق: [إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ … أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ](الأعراف:54).
8. التركيب المحكم للكون
بعدها يمضي القرآن الكريم لتقديم شبكة من المعطيات عن بناء الكون ومواصفاته وتركيبه المعجز، فيشير بشكل غير مباشر إلى ظاهرة (الجاذبية) التي تمسك السماوات؛ بسدمها ومجراتها وشموسها وأقمارها وكواكبها وكتلها: [اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ…](الرعد:2). [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا…](لقمان:10). وبهذا حفظ السماء من أي خلل قد يقود إلى تهاوي البناء المحكم، وحدوث ما لا تحمد عقباه من الويل الذي تعجز عن تصويره كل لغات العالم: [وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ](الأنبياء:32). […وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ](الحج:65). وهو يؤكد في آيةٍ أخرى أن الله وحده هو الذي يمسك بالنظام الكوني من التفكك والانهيار، وتسييره وفق صيغة غايةً في الإحكام، فمن غيره – جلّ في علاه – من يقدر على هذا؟: [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ…](فاطر:41). [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء…](غافر:64). وهو – جلّ في علاه- يقسم بـ [وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ](الذاريات:7)، أي بالصنعة المحكمة لبناء الكون، والتي لن يقدر عليها أحد سواه، وببنائها المعجز، الذي لن تكون غير يد الله المطلقة بقادرة عليه: [وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا](الشمس:5).
وثمة مجموعة من الآيات تشير جميعاً إلى سباعية البناء الكوني! ونحن لا نستطيع تحديداً أن نصل إلى دلالة الأرقام في كتاب الله، تلك التي كشفت عن أحد جوانب إعجازه بتوافقاتها المدهشة، ولكن يظل الأمر معلقاً بغيب الله سبحانه وتعالى، لا سيما وأن الأرقام فرشت بشكل متغاير في كتاب الله؛ ما بين الواحد، والسبعة، والتسعة عشر، والمائة، والمائتين…، حيث لا يمكن الوقوف على إحداها قائلين ها هو ذا الرقم الذي ينطوي على مغزاه. فيما دفع العديد من الباحثين إلى تغليب الظنون وهم يتعاملون مع الأرقام الواردة في كتاب الله، فيما يصعب التسليم بمقولاتهم.. والمهم أن البنية الكونية تقوم على سباعية التركيب، فيما تشير إليه عدد من الآيات: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ …](الإسراء:44). [وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ](المؤمنون:17). [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ…](فصلت:12-11). [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ…](الطلاق:12). [الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ…](الملك:3). [أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً](نوح:15). [وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً](النبأ:12). [… ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](البقرة:29). [قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ](المؤمنون:87-86).
وفي أماكن عديدة يتحدث كتاب الله عن جانب آخر من بنية الكون، ذلك هو البروج: [تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً…](الفرقان:61). [وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ](الحجر:16).
9. الظاهرة الجمالية والغائية
وهذا يقودنا إلى الظاهرة الجمالية في خلق الكون، والتي طالما أكدت عليها آيات القرآن البينات: [وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ](الحجر:16). [إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ](الصافات:6). [… وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ َحِفْظاً…](فصلت:12). [أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ](ق:6). [وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ…](الملك:5).
يقول (ريتشارد فيمان): “للطبيعة بساطتها، وبالتالي جمالها الرائع”. ويقول (روبرت براونغ): “إذا كان لديك ذلك الجمال الطبيعي فقط، ولا شيء آخر، فقد حصلت على أفضل ما خلقه الإله”([21]). ويقول (ويلر): “في قوانين الفيزياء، في البساطة الرائعة، ما هي الآلية الرياضية النهائية وراءها جميعاً؟ إنها بالتأكيد حيث يتجلى الجمال المتضمن أكثرها جمالاً”([22]). ويتساءل (إسحق نيوتن)، مشيراً بذلك إلى وجود الخالق العظيم: “من أين نشأ هذا النظام وهذا الجمال الذي نراه في الكون”([23]).
وتأكيد القرآن الكريم على هذه اللمسات الجمالية في خلق الكون، تجيء بمثابة تحدٍ للملاحدة والمشككين من علماء وفلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، القائلين بمبدأ غياب الغائية من خلق الكون.. لو كان الأمر كذلك، فما الذي يدفع إلى تشكيله بهذا القدر من الجمال؟ أليس معنى ذلك وجود يد عليا تصنع هذا الكون، وتسمه باللمسات الجمالية؟ الأمر الذي قاد العديد من العلماء وفلاسفة العلم المعاصرين إلى القول بغياب الصدفة من عملية الخلق، وبوجود يد قديرة، ومدبرة، وإرادة مسبقة، وراء هذا كلّه؟
إن (كريسي موريسون)، الرئيس السابق لأكاديمية العلم بنيويورك، ورئيس المعهد الأمريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة، والزميل بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، والعضو مدى الحياة للمعهد الملكي البريطاني، يقول في كتابه الشهير: Man Does not Stand alone))، المترجم إلى العربية بعنوان: (العلم يدعو للإيمان)([24]): “إن الطبيعة إذا لم تنلها يد التشويه، تبدو كأنها أعدت لكي تستدر أسمى الشعور في نفوسنا، وتلهمنا الإعجاب بصنعة الخالق الذي وهبنا نعمة الجمال، تلك التي لا يدركها بكل كمالها غير الإنسان. والجمال هو الذي يرفع الإنسان وحده إلى مرتبة يكون فيها أقرب إلى الله، ويبدو أن (الغائية) جوهرية في جميع الأشياء؛ من القوانين التي تحكم الكون، إلى تركيبات الذرة التي تدعم حياتنا. وإذا لم يكن للتطور من غرض سوى إعداد أساس مادي لتلقي الروح، فإن هذه غايةً مدهشة في حدّ ذاتها. وإذا كانت حقيقة الغاية مقبولة بالنسبة لكل الأشياء، وإذا آمنا بأن الإنسان هو أهم مظهر لتلك الغاية، فإن الاعتقاد العلمي بأن جسم الإنسان، وجهاز مخه، ماديان، قد يكون سليماً. فإن الذرات والهباءات في المخلوقات الحية تفعل أفعالاً مدهشةً، وتبني أجهزة عجيبة، ولكن هذه الأدوات عديمة النفع ما لم يحركها العقل حركات ذات غرض، فهناك إذن خالق للكون لا يرقى إليه تفسير العلم، ولا يقدر أن ينسبه إلى المادة”([25]).
ويقول: “لقد رأينا أن هناك (999.999.999) فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بأن جميع الأمور تحدث مصادفةً. والعلم لا ينكر الحقائق كما بيناها، وعلماء الحساب يقرون أن هذه الأرقام صحيحة([26]).
وثمة جملة من الإشارات القرآنية إلى أنواع مخصوصة من النجوم وهي تتحرك في مسرح الكون الكبير بصمت، وتكنس ما في طريقها من أجرام، أو تلك التي تمارس الطرق المستمر، فتثقب ما يمر بها من نجوم.. ولقد جاءت الكشوف الكوزمولوجية التي اعتمدت أدق الأجهزة المسبارية للرؤية الكونية بعيدة المدى، لكي تؤكد – بما لا يدع مجالاً للشك – هذا الذي ذهبت إليه آيات القرآن الكريم، وذلك عام 2007م. ولنتدبر معاً هذه الآيات: [فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ . الْجَوَارِ الْكُنَّسِ](التكوير:16-15). [وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ . النَّجْمُ الثَّاقِبُ](الطارق:3-1).
مسألة مكشوفة واضحةً لكل ذي عينين، وهي أقدر على جعل الملاحدة والكفار والشكوكيين يعيدون النظر في رؤيتهم المادية للكون وخلائقه، وأن التفريط بها لهي نوع من الهدر الذي عرفت به أمتنا عبر قرون انهيارها الحضاري.. فلماذا التشبث به؟!
10. بين العلم والدين
مهما يكن من أمر فإن القرآن الكريم وهو يستعرض معطيات الشبكة الكونية، يمارس تحدّيه للخلائق بقدرته المطلقة على خلق الكون العظيم هذا.. ولا أظن أن أحداً من عباده بقادر على أن يرد على تحدّيه هذا، خاصةً عبر القرن ونصف القرن الأخير، حيث وجد كبار علماء الرياضيات والفيزياء والكوزمولوجي وفلاسفة العلم، أنفسهم يفيئون إلى حظيرة الإيمان، وحيث يعود العلم بعد رحلة الشك والضلال لكي يلتقي بالدين ويتصالح معه..
إن الإنسان المعاصر اليوم بأمس الحاجة إلى يقين ديني يعيد إليه وحدته الضائعة، وسعادته المفقودة، وأمنه المسلوب.. وما دامت القناعة المبنية على (الحقائق العلمية) هي اليوم من أكثر القناعات فاعليةً للتحقق بهذا اليقين، وما دام كتاب الله يمنحنا هذا القدر الكبير المعجز من هذه الحقائق التي راحت تتكشف عقداً بعد عقد، وقرناً بعد قرن، فلماذا لا نتحرك على ضوء هذه المعادلة المؤكدة، لإنقاذ الإنسان المعاصر من ورطته بفقدان اليقين؟!
إن العلم الحديث لم يعد يرفض الحقيقة الدينية، أو يشكك فيها، كما حدث في القرون السابقة، وهو يعترف بأنه ليست له الكلمة النهائية في موضوع هو أكبر من حجمه بكثير. ثم يعود لكي يؤكد – بإمكاناته المحدودة – أن الحياة البشرية لا تستحق أن تعاش إذا نحن جردناها من بعدها الكبير، الذي يتجاوز حدود المادة والحركة.. يعود العلم لكي يتعانق مع الدين، ويتوظف لديه.. ذلك هو الانقلاب الكبير الذي شهدته فلسفة العلم، المتمخضة عن الكشوف الأخيرة في مجال البحث العلمي، وبخاصة الطبيعة والذرة وطريقة عمل الدماغ البشري.
إننا نجد عدداً من رجال العلم البارزين يصرّون – بمنتهى الحماس – على حقيقة مؤداها أن العلم لا يقدم لنا سوى معرفة جزئية عن الحقيقة، وبالمقابل فإن الأجزاء الأخرى من الحقيقة، الأجزاء الأشمل والأوسع والأعمق، تند بالضرورة عن قدرة العلم على الإحاطة. وهنا تبدو القيمة الحقيقية للدين.. وأن الذين يقولون هذا ليسوا أناساً عاديين، ولا فلاسفة، ولا أدباء.. إنما رجال علم بارزون، وهم يقولونه (بمنتهى الحماسة) وهي عبارة تحمل دلالتها، ولا ريب!
بعد رحلة طويلة وشاقة في التاريخ، يعود العلم – بعد أن نما وشب عن الطوق – لكي يلتقي بالدين، واستبعدت الفكرة التي ترفض قبول كل ما لا يخضع للفحص والتحليل، لأن الأجسام الفيزيائية نفسها أبت أن تخضع للفحص والتحليل، ولم تسلّم نفسها لكي نعرّيها ثوباً ثوباً. كل ما قدمته لنا – كما رأينا – هو ملامحها الخارجية، أما في الباطن، على مستوى الحقائق النهائية للتركيب والماهية، فلا جواب. وإذا كان ذلك كذلك، إذا كنا نحكم على الأجسام من خلال تأثيرها ومؤشراتها، فإن هنالك في حياتنا البشرية ظواهر لا يحصيها العد، تؤثر في صميم هذه الحياة، وتمدّ مؤشراتها إلى كافة الاتجاهات؛ كالدين، والجمال، والأخلاق، وغيرها. ومن ثم فإن نكرانها لمجرد أننا لم نعرف عن ماهيتها شيئاً، لم نعرف سوى تأثيراتها، يقودنا بالضرورة إلى إلغاء العلم نفسه، لأنه لم يمنحنا سوى الكشف عن التأثيرات والمؤشرات، أما الماهيات فلا جواب. ومن ثم، كان لذلك الكشف الخطير على مستوى العلم، الذي بلور (أدينغتون) ملامحه النهائية، تأثير إيجابي عام على مستوى الحياة البشرية.. إنها إرادة الله سبحانه وتعالى التي ركزت الإيمان به وحده في فطرة بني آدم، تعود بهم ثانيةً إلى ساحة الإيمان.. تعود بهم من ألف طريق.. وها هو ذا حشد كبير من العلماء يرجعون إلى الله والروح والجمال والحق والخير، كحقائق موضوعية مستقلة عن ذواتنا، يرجعون من خلال منهج علمهم نفسه!!
إن نظرات المتصوفة لا تهمل – كما يقول السير (آرثر أدينغتون) في ختام كتابه عن كيان الدنيا الطبيعية – وأن ملكات الإنسان التي يمازجها الشعور الديني، هي من وقائع الكون، إذا كان الإنسان قد استبقاها بفعل الانتخاب الطبيعي. وفي ختام كتابه (فلسفة العلم الطبيعي) يقول: “نحن في العلم ندرك أن المعرفة ليست بالأمر الوحيد الذي نعتد به، ونسمح لأنفسنا أن نتحدث عن روح العلم… وأن أعمق من كل قضية من قضايا النكران، لهي العقيدة، التي هي قوة خالقة أهمّ مما تخلقه… وفي عصر العقل تظل العقيدة راجحةً، لأن العقل بعض مادة العقيدة…”([27]).
يقول (شرودنجر)، في ختام رسالته (ماهية الحياة): أود أن أوضح في هذا الفصل الأخير بالإيجاز أن كل ما علمناه من بناء المادة الحية يوجب علينا أن نكون على استعداد لأن نراها عاملةً على مثال لا يمكن إخضاعه لقوانين الطبيعة العادية، وليس ذلك على اعتبار أن التركيب هنا يخالف كل تركيب درسناه في معامل العلوم الطبيعية. ويختم (شرودنجر) رسالته بالتساؤل عن الشخصية والروح، فقرر أن (الوعي) ظاهرة مفردة لا تقبل الجمع، لأن كل ما يمكن الجزم به هو أن الشخصية لا تتكرر، وأنها قوام مستقل عن كل قوام([28]).
ويقول (ليكونت دي نوي): “إن الإنسان الأمين، الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي، لا يلزمه أن يتصور الله سبحانه وتعالى إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب، فإن التصوّر في كلتا الحالتين ناقص وباطل. وليس الكهرب قابلاً للتصور في كيانه المادي، وأنه – مع هذا – لأثبت في آثاره من قطعة الخشب!”([29]).
وكان (رسل والاس) في شيخوخته يعتقد أن الكون هو مظهر للكون الروحاني، وأن في الكون الروحاني أنماطاً من العوامل الفعالة؛ من القوى العليا، إلى الأرواح الكامنة في الخلايا الحية. وربما تعذر إثبات هذه التقديرات بالبرهان القاطع، ولكنها فيما نراه أصلح لتوضيح الوقائع من أي تقدير يأخذ به الماديون([30]).
ويعوّل (سير آرثر تومسكون)، أستاذ التاريخ الطبيعي بجامعة (ابردين)، كثيراً على تخفف الكثافة المادية واقترابها من اللاموزونات، أي المعاني التي لا توزن؛ كالفكر والعاطفة والعناية.. ويقول: إننا في زمن شقت فيه الأرض الصلبة، وفقد فيه الأثير كيانه المادي، فهو أقل الأزمنة صلاحاً للغو في التأويلات المادية… وفي جوابه للسائلين عن عقيدته، في (مجموعة العمل والدين)، يقول: “… إذا كان العلم صيغاً وصفيةً، وكان الدين في جانبه العقلي تفسيراً علوياً أو خفياً، فلا موجب للتعارض الحاسم بينهما”([31]).
إن من القول الجزاف اليوم – يستخلص العقاد – أن يقال: إن محسوسات المادة هي وحدها الوجود الحقيقي، وإن المتكلمين عن أصول المادة يأتون بشيء أثبت من الكلام عن الأرواح والمجردات!([32]).
أما (سوليفان)، فيخلص إلى القول بأننا “بحثنا حتى الآن في حدود العلم، باعتباره أسلوباً لاكتساب المعرفة حول الحقيقة، وقد رأينا كيف أدت الحساسية الجديدة للعلم إلى الإقرار بأن ادعاءاته السابقة قد بولغ فيها كثيراً. لقد جعلت الفلسفة المبنية على العلم من المادة والحركة الحقيقة الوحيدة. وبهذا العمل فقد جرى استبعاد جميع العناصر الأخرى الواقعة في مجال خبراتنا. هذه العناصر التي تحمل المغزى الأكبر، والتي تجعل الحياة في النهاية جديرةً بأن تعاش، قد جرى استبعادها على أنها محض أوهام. لقد بدا العلم لبعض المفكرين، وربما لغالبيتهم، أنه قد جعل الحياة قاتمة، على الرغم من كل المنافع العملية التي قدمها. وهكذا، فإننا لا نجد ما يثير الدهشة عندما نرى أن النظرة العلمية الجديدة، كما شرحها رجالٌ من أمثال (أدينغتون) و(جينز)، قد لاقت اهتماماً واسعاً. لقد كانت المعتقدات الميتافيزيقية التي رافقت العلوم مدعاةً لليأس والقنوط([33]).
ويختتم (سوليفان) تحليله بالقول بأن الفلسفة العلمية القديمة “جعلت الإنسان نفسه حاصلاً عرضياً محضاً للمادة والحركة، والتي عرضت الكون، على اتساعه وعظمته، على أنه مجرد من الغرض تماماً… إن المادة لن تكون أحسن حالاً لو افترضنا أن العالم الحالي يتجدد باستمرار، إن دوافعنا الدينية لا يمكن أن يقنعها شيء، أقل من الاعتقاد بأن للحياة مغزى خارقاً. وهذا الاعتقاد هو بالضبط، ما جعلته الفلسفة القديمة أمراً مستحيلاً. وهكذا يمكننا أن نستنتج أن الأهمية الحقيقية للتغيرات التي حصلت في العوم الحديثة، ليست في قدرتها المتزايدة على دفع عجلة تقدم الإنسان، بل في تغير الأسس الميتافيزيقية التي تقوم عليها”([34]).
ومعنى هذا، باختصار؛ أن الإلحاد والعلمانية، قد أصبحا – على ضوء التقدُّم العلميّ – أمراً رجعياً!!
* دكتوراه في التاريخ والحضارة الإسلامية من جامعة عين شمس بالقاهرة … أستاذ متمرس في كلية آداب جامعة الموصل – العراق. البريد الإلكتروني Imadaltalib@yahoo.com
[1] عن المسرح الطليعي والرؤية العبثية. ينظر: خليل، عماد الدين. فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر، دمشق-بيروت: دار ابن كثير، 2007م، الفصل الثالث، ص 101-80.
[2] دافيز، بول. الله والفيزياء الحديثة، ترجمة: هالة العودي، الطبعة الثالثة، دمشق، صفحات للدراسة والنشر، 2019م، ص 23-22.
[3] المرجع السابق، ص 196-195.
[4] العمري، أحمد خيري. ليطمئن عقلي، د.م، عصير الكتب، 2019م، ص 82-80 عن:
Hawking, Stephen: The Beginning of Time. Second Law of Wikpedia. The Mecadynamics.
[5] المرجع السابق، ص 120.
[6] المرجع السابق، ص 121 عن: Fine-tuned Universe-wikipedia
[7] المرجع السابق، ص 121 عن:
Fred, Hoyle (1984). The Intelligent Universe. Holt Rinehart, and Winston.
[8] المرجع السابق، ص 122.
[9] المرجع السابق، ص 122 عن:
Davies, Paul. 1993, The Accidental Universe, Cambridge University Press,
P. 70-71.
[10] العمري، المرجع السابق، ص 124-122 عن:
Just Six Numbers: The Deep Forces that shape the universe. Martin Rees PP.2-3.
[11] المرجع السابق، ص 188، دافيز، الله والفيزياء الحديثة، مرجع سابق، ص 188.
[12] المرجع السابق، ص 191.
[13] المرجع السابق، ص 194.
[14] العمري، ليطمئن قلبي، مرجع سابق، ص 126.
[15] المرجع السابق، ص 127 عن:
https:/www.nationalreview/213/why.some. scientists. embrace. multiverse. dennis. prager.
[16] المرجع السابق، 127 عن:
The Emperob’s New Mind. Concerning Computers. Minds and The Laws of Physics Rogen Pensose, 1989, P. 341-344.
[17] المرجع السابق، ص 128-127.
[18] المرجع السابق، ص 135-133.
[19] برواري، هفال عارف، مجلة الحوار، عدد 109، صيف 2019، ص 88.
[20] دافيز، الله والفيزياء الحديثة، مرجع سابق، ص26.
[21] دافيز، الله والفيزياء الحديثة، ص 255، مرجع سابق، ص 255.
[22] المرجع السابق، ص 259.
[23] المرجع السابق، ص 195.
[24] ترجمة محمود صالح الفلكي، الطبعة الرابعة، مكتبة النهضة، القاهرة-1962م، ص 136.
[25] المرجع السابق، ص 196-195.
[26] المرجع السابق، ص 196-195.
[27] عباس محمود العقاد، عقائد المفكرين في القرن العشرين، الطبعة الثانية، د.ت، القاهرة، ص 65-64.
[28] المرجع السابق، ص 63.
[29] المرجع السابق، ص 105.
[30] المرجع السابق، ص 109.
[31] المرجع السابق، ص 113.
[32] المرجع السابق، ص 97.
[33] حدود العلم، بيروت، الدار العلمية، 1972، ص 52-51.
[34] المرجع السابق، ص 54-53.